الحمد لله ذاكر من ذكره، يتولى الصالحين، ويثيب الذاكرين، ويزيد من شكره، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، فما خاب من ذكره، وما انقطع من شكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ سيد الذاكرين، وقدوة الشاكرين، صلى الله عليه وسلم وبارك على آله وصحبه الأتقياء البررة، أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه في السر والعلن، اتقوه واعبدوه، واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
أيها الناس: إن قلوب البشر طراً كغيرها من الكائنات الحية، التي لا غنى لها عن أي مادة من المواد التي بها قوام الحياة والنماء، ويتفق العقلاء جميعاً أن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد، وأنها تظمأ كما يظمأ الزرع، وتجف كما يجف الضرع، ولذا فهي تحتاج إلى تذليل وري، يزيلان عنها الأصداء والظمأ، والمرء في هذه الحياة محاط بالأعداء من كل جانب، نفسه الأمارة بالسوء تورده موارد الهلكة، وكذا هواه وشيطانه، فهو بحاجة ماسة إلى ما يحرزه ويؤمنه، ويسكن مخاوفه، ويطمئن قلبه، وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء، ويحرز من الأعداء ذكر الله والإكثار منه لخالقها ومعبودها، فهو جلاء القلوب وصقالها، ودواءها إذا غشيها اعتلالها، قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!
عباد الله! العلاقة بين العبد وبين ربه، ليست محصورة في ساعة مناجاته في الصباح أو في المساء فحسب، ثم ينطلق المرء بعدها في أرجاء الدنيا غافلاً لاهياً، يفعل ما يريد دون قائد ولا محكم، كلا فهذا تدين مغشوش، العلاقة الحقة أن يذكر المرء ربه حيثما كان، وأن يكون هذا الذكر مقيداً مسالكه بالأوامر والنواهي، ومشعراً الإنسان بضعفه البشري، ومعيناً له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه.