الفرح -عباد الله- شأنه شأن الوعاء، الحكم عليه مبني على ما يكون فيه من المادة الداعية إليه، فالفرح إنما يكون محموداً حينما تجده في مقابل نعمة التوفيق بطاعة من الطاعات أو قربة من القربات، أو كفرحة المجاهد الذي قهر شهواته وقاوم رغباته، أو كانتصار ما يحبه الله على ما لا يحبه، وكذا دفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الروم:٤-٥] .
وإن للمسلمين كل الحق في أن يبتهجوا ويفرحوا؛ إذا نالوا نعمة خالصة أو أمنية خالية من شوائب الحظوظ العاجلة في دينهم ودنياهم مما يضر ولا ينفع، ولكنهم يفرحون إذا فرحوا فرح الأقوياء والأتقياء، وهم في الوقت نفسه لا يبغون ولا يزيغون ولا ينحرفون عن الصواب ولا يتعسفون، ناهيكم عن كونهم يعمرون فرحتهم بذكر ربهم الذي أتم عليهم نعمته ورزقهم من الطيبات، وهيأ لهم في كونه كثيراً من أسباب البهجة والسرور، بل ولربما تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك حتى إلى مقابلة الابتلاء والامتحان بالفرح لما يفضي إليه، من محو للسيئات ورفع للدرجات.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:{دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه؛ فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك، قال: إنا كذلك يضعَّف لنا البلاء ويضعَّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء، قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله! ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء} رواه ابن ماجة بسند صحيح.
الفرح المحمود -عباد الله- يترجم في الواقع بما تحمله في طيات نفسك لأخيك المسلم، فتفرح لفرحه وتسر لوصول النعمة إليه، أضف إلى ذلك الفرح حينما يسلم عبد أو يتوب عاصٍ، كما فرح الصحابة رضي الله عنهم بإسلام الفاروق رضي الله عنه أو غيره من الصحابة، لا الازدراء الموجه تجاه من يتمسك بدينه ويعتز بكونه من ركاب الصالحين والطائفة الناجية المنصورة.
قال أبو هريرة رضي الله عنه:{كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي قلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره؛ فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدِ أم أبي هريرة، فخرجت مستبشراً بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فلما جئت وصرت إلى الباب فإذا هو مجافى، فسمعت أمي خجف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قلت: يا رسول الله! أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة فحمد الله وأثنى عليه} الحديث رواه مسلم في صحيحه.
الفرح المحمود يرعاكم الله في مثل فرح الصائم بفطره الذي عناه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله:{للصائم فرحتان يفرحهما: إذ أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه} رواه البخاري في صحيحه.
الفرح المحمود فرح المؤمن بشريعة ربه، وأمره ونهيه، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، بل يفرح أشد الفرح إن كان ممن عناه الله بقوله:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[النور:٥١] أو ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ}[الرعد:٣٦] ففي هاتين الآيتين دعوة محضة للارتقاء بفرح القلب بالإسلام ومجيء المصطفى صلى الله عليه وسلم، خلافاً لمن يشاققون بها أو يناقشون {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:٥٧-٥٨] .
روى ابن أبي حاتم بسنده لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه، خرج عمر ومولىً له، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل عمر يقول: [[الحمد لله تعالى، ويقول مولاه: هذا من فضل الله ورحمته، فقال عمر: كذبت ليس هذا الذي يقول الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:٥٨] وهذا مم