للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أثر مراقبة الله في حياة العالم]

عباد الله: أما العالم فيا لعِظَم العلم وعلو منزلة العالِم! ولكن يا لفظاعة الكبوة وعِظَم الزلة في عيون الناس!

إن أشرف ما تنافس فيه المتنافسون وأفضل ما بذلت فيه الجهود: طلب العلم النافع، فهو الروح يمد الجسد بالحيوية، وهو النور الوضاء يبدد ظلمات الجهل ويهدي إلى السبيل {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢] وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] .

فالعلماء هم أولى الناس بالإحسان، وأقرب الناس إلى الإحسان، وأكثر الناس دعوة إلى الإحسان، والعالِم الرباني هو من تحقق فيه ذلك وجمَّل علمَه بالعمل به كما تتجمل المرأة بالحلة الحسناء للدنيا؛ لأن العلم والعمل إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم والقرب منه والزلفى لديه.

قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إنما فضِّل العلم؛ لأنه يُتَّقَى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء.

فمن طلب بالعلم والعمل سيادة على الخلق وتعاظماً عليهم وإظهاراً لزيادة علمه ليعلو به على غيره فهو متوعَّد بالنار كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار} رواه الإمام أحمد والترمذي.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[يا حملة العلم! اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره]] .

والعالم المسلم إذا عبد الله كأنه يراه كرهت نفسُه الفُتيا، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها، قال الإمام أحمد رحمه الله: مَن عَرَض نفسَه للفُتيا فقد عَرَّضها لأمر عظيم، قيل له: فأيما أفضل: الكلام أم السكوت؟ قال: الإمساك أحب إلي، ثم قال: وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره ونهيه وأنه موقوف ومسئول عن ذلك.

وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: ما فُتِيْتَ عن المسألة والفُتيا فاغتنم ذلك ولا تنافس، وإياك أن تكون ممن يحب أن يُعمَل بقوله أو يُنْشَر قولُه أو يُسْمَع قولُه، وإياك وحب الشهرة فإن الرجل يكون حب الشهرة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة.

وكان أحد السلف يعجبه ما يراه من علم أحد الناس وحسن خطابه وسرعة جوابه، فقال له يوماً، وقد سأله عن مسألة فأجاب: [[أخشى أن يكون حظك من الدنيا لسانك]] فكان ذلك الرجل لا يزال يبكي من هذه الكلمة.

إذاً خير لك يا صاحب العلم أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:٥٥-٥٦] .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.