للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[زوابع الزنادقة]

فالعجب كل العجب عباد الله! ممن يعلم خطورة الركون إلى غير الإسلام، أو ميل القلب أو العاطفة تجاه من هم على غير ملة الإسلام مهما كانت الظروف التي تحيط بالواقع، ودوافع الرغبة أو الرهبة الداعية إلى مثل هذا، فإن هذا وإن كان لا يعد مسوغاً للميل إليهم والخنوع لهم وتحبير الأقلام والأفهام لهم أو الانسياق خلف مطامعهم وتطلعاتهم، أو الاستجابة لدعواتهم المتكررة في لمز دين الإسلام وهمزه، أو التنازل عن بعض ثوابته وعماده، أو التشكيك المزوق في مناهج التعليم الشرعية، وثمار الصحوة المأتية، فإن الانسياق مع مثل هذا جرم فاضح، وإحسان الحديث عنه زور وبهتان، وما محبو مثل هذا في عالمنا الإسلامي إلا كأنوف أزكمها غبار الافتتان فاستوت عندها الروائح، أو كجسوم تندت ولم ينزع مبلولها، فما هي إلا الحمى ما منها بُدّ.

وإن تعجبوا عباد الله! فعجبٌ تلك الأفهام التي تحمل اسم الإسلام وما يخطه بنانها، وتلوكه ألسنتها، غريب كل الغرابة عنه، يدفعهم إلى مثل هذا كونهم منهومي المال، مفتوني الجاه، أو رائمين شهوات مشبوهة، قد ركبت تركيباً مزجياً يمنعهم من الصرف والعدل، وإن أحسن الظن بهؤلاء: فهم من صرعى الأفئدة المقلدة الذين لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، أو ممن يضيفون الأسباب إلى غير مسبباتها، ويستسمنون كل ذي ورم، ثم هم يغفلون عن حقيقة هذا وذاك، فلو سرق إنسان في المسجد؛ لعلت صيحاتهم تدعو إلى هدم المساجد أو إغلاقها؛ لئلا تتكرر السرقة زعموا.

ولو أن امرأة محجبة غشت وخدعت لتنادوا إلى نزع الحجاب وبيان خطره، وأنه مظنة الغش والخداع، فلا هم في الحقيقة قطعوا يد السارق، ولا عزروا تلك التي غشت وخدعت، وإنما دعوا لهدم المسجد ونزع الحجاب، وهذا هو سر العجب! وهو ما يثير الدهشة حينما نرى مثل هذا الفكر المقلوب الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح، وأحسن ما فيه أنه غير حسن.

قدم أبو سفيان -رضي الله تعالى عنه- المدينة قبل أن يسلم، فدخل على ابنته أم حبيبه زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: [[يا بنية! ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبتِ به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس]] .

هكذا فعلت أم المؤمنين رضي الله عنها في أبيها بكلمة حق خرقت بها مثلاً عربياً مشهوراً:

كل فتاة بأبيها معجبة

وما فعلها هذا إلا لأن الإيمان لم يخامر قلب أبيها، وكلمة التوحيد لم ينطق بها لسانه، ولم يكن لنسب الأبوة حق عندها في أن يلامس ولو مجرد الفراش.

ألا إن رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم كفراشه، فمن أجلس عليه من ليس منه أو طواه حياء أو استجداء فما رعى حق الله ولا حق نبيه صلى الله عليه وسلم ولا حق دينه وأمته؛ ولأجل هذا فمن البديهي قطعاً أنه لا يمكن أن نتصور نضجاً إنسانياً مع انقطاع الصلة بالله، وإضمار الكراهية لشريعته.

وما يشاع بين الفينة والأخرى من أن ثَمة أفكاراً ومستجدات تضع إمكانية مقاطعة المرء المسلم لدينه، أو مجاملته بكلمات باهتة، أو مجرد التمسك بخيط واحد من حبله المتين، ثم هو يختط لنفسه طريقاً لا يعرف من خلاله المسجد، ولا يقيم وزناً لحدود الله، لهو فكر خطر الملمس يثير تسائلات واسعة النطاق من قبل الباحثين عن الحق.

هل قضية الإيمان بالله من السهولة بمكان بحيث يستوي فيها النفي والإثبات، والأخذ والترك، والشرك والتوحيد؟

هل هذه القضية من خفة الوزن بمكان بحيث لا يفرق فيها بين الثابت والمتغير، وبين العدل والجور، وبين الصدق والريبة؟

إننا لو سمعنا برجل ما يقول: إن الأرض مربعة، أو يزعم أن مياه البحار والمحيطات غاية في العذوبة، فإننا -ولا شك- نزري بعقله ونرميه بالجنون والسفه، فإذا كان الخطأ في فهم بعض الحقائق الدنيوية له هذا الوزن في الإنكار، فكيف بالخطأ الجسيم في الحقائق العلوية المتصلة بمن استوى على العرش ويعلم السر وأخفى؟! {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:٤٠] .

فيا ليت شعري أين ذوو الأقلام النيرة، والأفهام السوية، يدلون الناس على ما يحفظ لهم دينهم، ويحصن كيانهم، ويزرع الثقة في مبادئ شريعتهم، ومناهج تعليمهم، ويحذرونهم من شرور المبغضين، وحسد الحاسدين، ويقيمون لهم ميزان العدل في القول والعمل، فيرجعون عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يذرون.

فبلاد الإسلام مستهدفة، وثوابت الشريعة الغراء تواجه تضليلاً وتشكيكاً من خارجها وداخلها، بل وممن على أرضها، ويتكلمون بلغتها، وبلاد الحرمين الشريفين -مهبط الوحي، ومعقل الإسلام المعاصر- لم تسلم براجمها من هذه الأوخاز، حتى طالتها الاتهامات والهجمات، غير أنها بحمد الله لن تكون علكاً ملتصقاً يلوكه كل مشكك في دينها وثوابتها وصحوتها ومناهجها الشرعية، وصحوتها من شباب وكهول، إن ما نَهلوه تربية إسلامية غير معوجة، وأفكارهم واطروحاتهم مبنية على ركائز العقيدة الصحيحة والولاء لله والبراء فيه، وهم في ذلك ثمرة علمائها، وشعب حكامها، ولن يكون أهلها -بإذن الله- أبواقاً ينفخ من خلالها المغرضون، ومطايا يمتطيها الحاقدون، ضد هذه البلاد، ومناهجها الشرعية، وعقيدتها الراسخة، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:١٤١] .

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون واستغفروا الله إنه كان غفاراً.