للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما جبل عليه الإنسان من التمني]

الحمد لله على تقديره، وحسن ما صرَّف من أموره، نحمده سبحانه على حسن صنعه، ونشكره على إعطائه ومنعه، يسخر للعبد وإن لم يشكُره، ويستُر الجهل على من يظهره، خوَّف من يجهل من عقابه، وأطمع العامل في ثوابه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شراً إلا حذَّرها منه، حتى تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والذين ساروا على طريقه وسلكوا نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فعلى المسلمين -جميعاً- أن يتَّقوا الله سبحانه، ويعبدوه -جل شأنه- كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، ومن جعل بينه وبين عذاب الله وقاية فقد اتقاه: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠] .

أيها الناس! للمرء مع نفسه في هذه الحياة أسرار وأطوار، وهو -ولا شك- منذ أن يبدأ مرحلة التمييز المبكر يبدأ تفاعلُه مع الحياة ومناحيها في أولى مراحلها، لا يثنيه عن ذلك براءة الطفولة، ولا غيب المستقبل، ولا صِفر السجل من ماضٍ مجرب، كل ذلك لا يثنيه ألبتة عن أن يستعجل المستقبل، ويملأ فراغه المبكر مشرئباً بكمٍ هائلٍ من الأماني والآمال، تلكم الأماني التي لا تخضع للهرم أو الشيب، كعجلة دائرة، لا يحول دونها إلا الموت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر} رواه مسلم.

إن من أعجب ما في المرء! حرصه على كشف ما مُنِع منه، وتوقه الجارف إلى ما لم ينل، والكثرة الكاثرة منا مبتلاة بتضخم الأماني واستسمانها، ولربما لم يسعف الزمان على تحقيقها، أو قد تضعُف الآلة فيبقى المتمني في عذاب، وقد قيل: "لو أُمِرَ الناس بالجوع لصبروا، ولو نُهوا عن تفتيت البعر -أجلَّكم الله- لرغبوا فيه، وقالوا: ما نُهينا عنه إلا لشيء"، والمقولة المشهورة: "أحب شيء إلى الناس ما منع عنهم".

ولهذا لو قََعَد الإنسان في بيته شهراً برمته لم يصعب عليه، ولو قيل له: لا تخرج من بيتك يوماً لطال عليه ذلك اليوم.

وإن تعجبوا -عباد الله- فعجبٌ حرصُ المرء على التمني، والإلحاح على ربه على تحقيقه، بل كلما زاد تعويقه ازداد إلحاحه على ربه، ثم ينسى المرء أن ربه منعه ذلك، إما لمصلحة فرُبَّ مُعَجَّلٍ هو أذى، وإما لذنوبه فإن صاحب الذنب بعيدٌ من الإجابة.

وفي الجملة: فتدبير الحق سبحانه للمرء خيرٌ من تدبير المرء لنفسه، وقد يمنعه ما يتمنى ابتلاءًَ ليبلو صبره، فالله الله في الصبر الجميل، يرى صاحبُه عن قربٍ ما يسُر، ويعلم أن كل ما يجري أصلح له عطاءً كان أو منعاً.