[الاختلاط وصوره المحرمة]
وبعدُ أيها الأحبة: فقد وضع الإسلام للمرأة سياجاً قوياً مانعاً من الضياع، إذا هي أخذت به نجت، وإن هي أضاعته ضلت وهلكت، وذلك -أيها الإخوة- هو سياج الحشمة والعفاف، الذي يكون من مقتضاه: الحجاب الشرعي، والقرار في البيوت، والبُعد عن مزاحمة الرجال، فتصبح المرأة بذلك كجوهرة في صدفة لا يعرفها إلا الخواص من الناس، والإسلام جرى في الاختلاط بين الرجل والمرأة خطراً محققاً، فهو يباعد بينهما إلا في الزواج بقول الباري جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:٣٣] .
ولقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:٥٣]
فقد روى البخاري رحمه الله تعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم -أي: من صلاته- مكث قليلاً، قال ابن شهاب رحمه الله تعالى فتُرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم، أي: الرجال.
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت والطواعين المتصلة.
انتهى كلامه رحمه الله.
أضيفوا إلى ذلك -أيها الإخوة والأخوات- شيوع الطلاق، والعنوس، بسبب فُشُو التبرج والزينة والاختلاط؛ لأن المرء العاقل المسلم إنما يبحث عن المرأة العفيفة المحتشمة، فإذا ما اضمحل الحياء، وانتزع من صدور النساء، وانعدمت الغيرة لدى الرجال؛ فسدت الأخلاق، وتعثر بذلك غض البصر، ووقع المرء في شرك بلاء العشق والمحنة به والذي يتلف الدنيا والدين.
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمانِ
إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها أُكلت بلا عوض ولا أثمانِ
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:٣٠] .
إن من آثار الاختلاط بين الجنسين، وإطلاق البصر هنا وهناك، والذي يودي بدوره إلى هذا الشر العظيم، وإلى كل بلية ومعصية، فالبصر إذاً هو الشرارة الأولى، وهو كذلك سهم مسموم إلى فؤاد كل ناظر.
كل الحوادث مبدأها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ
كم نظرة فتكت بقلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وترِ
وللاختلاط -أيها الإخوة- صور متنوعة، تتراوح هذه الصور لكل مجتمع بحسب ما فيه من الشر والتقصير، فمن ذلك -على سبيل المثال-: الاختلاط بين الجنسين، ولو كانوا إخوة بعد التمييز، كأن يجتمعوا في المضاجع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} .
وهنا نكتة لطيفة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اختلاط الأخ مع الأخت في المضجع، مع أن المحرم قد لا يفكر في جوانب الشهوة بمحارمه، كما يكون التفكير مع الأجنبية عنه، وهذا أمر مُشاهد معلوم، ومع ذلك جاء النهي عنه صلى الله عليه وسلم ليُستدل به على ما هو أعظم من ذلك، وهو الاختلاط بالأجنبية عنه.
ومن صور الاختلاط أيضاً: اتخاذ الخدم الرجال، واختلاطهم بالنساء، وحصول الخلوة بهن، وكذا اتخاذ الخادمات بدون محرم، وهذا بلية عظمى، وشرارة كبرى دخلت بلاد المسلمين، فانتشر أُوارُها، نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية.
ومن ذلك أيضاً: السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر بذاتها إلى الخلوة قبل العقد الشرعي، والذي يجر بلا شك إلى ما لا تُحمد عقباه حينئذٍ.
ومن ذلك أيضاً: ما يجري في عادات بعض الناس وبُعدهم عن الله جل وعلا من خلال استقبال المرء أقارب زوجها الأجانب عنها، أو أصدقائهم ومجالستهم، سواء كان ذلك في حضرتهم، أو في حال غيبتهم.
وكذا أيضاً: الاختلاط في دور التعليم، كالمدارس، والجامعات، والمعاهد، والدروس الخصوصية، وهي أشد أنواع الاختلاط خطراً لعدة أسباب منها:
أولاً: طول الوقت الذي يلتقي فيه الجنسان، بحيث يمتد إلى أكثر من خمس ساعات في اليوم.
ثانياً: البُعد عن الرقيب الفعلي من الأسرة، كأحد الأبوين، أو المحارم، أو نحو ذلك.
ثالثاً: وجود العلل الداعية إلى أضرار الاختلاط، وذلك من خلال إقامة الحُجج لطلب الدروس والواجبات من زميل الدراسة -مثلاًَ- أو الاستفسار عن مقررات المنهج ونحو ذلك.
وقولوا مثل ذلك في اختلاط الوظائف، والمنتديات والجمعيات ونحوها مهما اختلفت مشاربها ومآربها.
وما أحسن ما أجاب به أحمد وفيق باشا حينما سأله أحد الغربيين قائلاً: لماذا تبقى النساء في الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن، من غير أن يخالطن الرجال.
فأجابه على عجالة لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن.
إن أعداء الإسلام -أيها الإخوة- يدركون قيمة الحجاب، وأثر قرار المرأة في بيتها في حماية المرأة المسلمة، وصيانة عفتها وطهارتها؛ لذلك نراهم يشنون على حجاب المرأة حرباً شعواء لا هوادة فيها، فيصفونه بالظلم تارة، وبالجور تارة، وبالتخلف أخرى، وتارة هو دخيل على حياة المسلمين، ولأنه أيضاً يحول دون تقدم المجتمع، وهم بذلك يبينون للمرأة المسلمة الخروج من بيتها بسبب وبدون سبب، وفي الحقيقة: ما بأعداء الإسلام رحمة للمرأة المسلمة، ولا عطف عليها، وما بهم غيرة على الإسلام، ولا حب للمسلمين، إنما هو لا غير الحقد الدفين، والكيد المضمر، والكراهية المدفونة في نفوسهم {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:١١٩] .
لقد ترقت المفاهيم السياسية والبيئية والاجتماعية في هذا العالم الفسيح، حتى أصبح كل ذي لب وبصيرة يملك بقوة الفطنة والحد ما يكشف له اليد الصهيونية، والحقد الدفين على الأمم والشعوب بتدميرها عقدياً واجتماعياً وأخلاقياً، تساوقاً مع مقررات حكماء بني صهيون خذلهم الله.
إن اليهود قد شنوا الحرب على حجاب المرأة المسلمة منذ القديم، منذ أن تآمروا على نزع حجاب امرأة كانت في سوق بني قينقاع وهي جالسة، فجاء رجل يهودي وربط طرف ثوبها من أسفله إلى أعلاه، وهي لا تشعر، فلما قامت واقفة انكشفت سوأتها، وبدت عورتها، فضحك اليهود، واستنفرت المرأة من حولها، وقامت بسبب ذلك صراعات لا يزيدها الزمن إلا اشتعالاً واضطراماًَ؛ لأن اليهود يدركون جيداً أن إفساد المرأة إفساد للمجتمع المسلم.
ولكن من المؤسف -أيها الإخوة وال