للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التي كان يعامِلُه بها قبلَ الرِّياسة، فلا يصادفُها، فينتقضُ ما بينهما من المودَّة، وهذا من جهل الصاحب الطالب للعادة، وهو بمنزلة من يطلبُ من صاحبه إذا سَكِرَ أخلاقَ الصَّاحي، وذلك غلطٌ؛ فإن للرِّياسة سَكْرةً كسكرة الخمر أو أشدَّ، ولو لم يكنْ للرِّياسة سَكْرة لما اختارَها صاحبُها على الآخرة الدائمة الباقية، فسكرتُها فوق سكرة القهوة (١) بكثير، ومُحَالٌ أن يُرى من السكران أخلاقُ الصاحي وطبعه، ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيسِ القبط بالخِطَاب اللَّيِّن، فمخاطبةُ الرؤساء بالقول اللَّيِّن أمرٌ مطلوب شرعًا وعقلًا وعرفًا، ولذلك تجدُ الناسَ كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخاطِبُ رؤساء العشائر والقبائل.

وتأمل امتثالَ موسى لما أمر به كيف قال لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩)} [النازعات: ١٨ - ١٩]، فأخرَجَ الكلام معه مخرجَ السؤال والعَرْض لا مخرجَ الأمر، وقال: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨)} ولم يقل: إلى أن أُزَكِّيَكَ، فنسبَ الفعلَ إليه هو، وذكر لفظ التَّزَكِّي (٢) دونَ غيره؛ لما فيه من البركة والخير والنماء، ثم قال: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أكونُ كالدليل بين يديك الذي يسيرُ أمامَك، وقال: {إِلَى رَبِّكَ}، استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه وربَّاه بنعمه صغيرًا ويافعًا وكبيرًا.

وكذلك قول إبراهيم الخليل لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢)} [مريم: ٤٢] فابتدأ خطابَه بذكر أبوَّته الدَّالَّة على توقيره ولم يُسَمِّه باسمه، ثم أَخْرج الكلامَ معه مخرجَ السؤال فقال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢)} ولم يقل: لا


(١) كذا في (ع) والقهوة من أسماء الخمر، وفي (ق وظ): "الشهوة".
(٢) (ع): "التزكية".