للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تعبدُ، ثم قال: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: ٤٣] فلم يقل له: إنك جاهلٌ لا علمَ عندَك، بل عَدلَ عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدُلُّ على هذا المعنى، فقال: {جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}، ثم قال: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣)}.

وهذا مثل قول موسى لفرعون: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} [النازعات: ١٩]، ثم قال: {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (١) [مريم: ٤٥] فنسب الخوفَ إلى نفسِه دون أبيه، كما يفعلُ الشفيقُ الخائفُ على من يُشفِقُ عليه.

وقال: {يَمَسَّكَ} فذكر لفظ المَسِّ الذي هو ألطفُ من غيره، ثم نكَّرَ العذابَ، ثم ذكر الرحمن، ولم يقل: الجبَّارُ ولا القهار، فأيُّ خطابٍ ألطفُ وألْيَنُ من هذا؟!.

ونظيرُ هذا خطابُ صاحب {يس (١)} لقومه حيث قال: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)} [يس: ٢٠ - ٢٢].

ونظير هذا قول نوح لقومه: {يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: ٢ - ٤]، وكذلك سائر خطاب الأنبياء، لأُمَمِهم قي القرآن، إذا تأمَّلْتَهُ وجدتَه ألْيَنَ خطابٍ وألطفَهُ، بل خطابُ الله لعباده هو ألطفُ خطاب وألينُه، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: ٢١] الآيات، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ


(١) الآية في (ع وظ) غير تامة.