للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفضل (١) أولاً، ثم درجاتها، ونسبة بعضها إلى بعض، والموازنة بينها ثانيًا، ثم نسبتها إلى من قامت به ثالثًا كثرةً وقوةً، ثم اعتبار تفاوُتها بتفاوُت محلِّها رابعًا، فرُبَّ صفة هي كمالٌ لشخص وليست كمالًا لغيره، بل كمالُ غيرِهِ بسواها، فكمالُ خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه. وكمالُ ابن عباس بفقهه وعلمه. وكمال أبي ذرٍّ بزهده وتجرُّده عن الدنيا، فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلَّمُ في درجات التفضيل، وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهلُ من تفضيل الأشخاص على الأشخاص، وأبعدُ من الهوى والغرض.

وهاهنا نكتةٌ خفيَّةٌ لا يتنبَّهُ لها إلا منْ بصَّرَهُ اللهُ، وهي: أن كثيرًا ممن يتكلَّمُ في التفضيل يستشعرُ نسبتَه وتعلقَه بمن يفَضِّله ولو على بُعْد، ثم يأخذ في تقريظه وتفضيله، وتكون تلك النسبةُ والتعلُّقُ مُهَيِّجةً له على التفضيل، والمبالغة فيه، واستقصاء محاسن المُفَضَّل، والإغضاء عما سواها، ويكون نظره في المفضَّل عليه بالعكس.

ومن تأمَّل كلامَ أكثر الناس في هذا الباب رأى (ظ / ١٨٩ أ) غالِبَهُ غيْرَ سالم من هذا، وهذا منافٍ لطريقة العلم والعدل التي لا يقبلُ اللهُ سواها، ولا يرضى غيْرَها، ومن هذا تفضيلُ كثير من أصحاب المذاهب والطرائق وأتباع الشيوخ، كلٌّ منهم لمذهبه أو طريقته أو شيخه، وكذلك الأنسابُ والقبائلُ والمدائن والحِرَف والصناعات، فإن كان الرجلُ ممن لا يُشَكُّ في علمِه وورَعِهِ خِيفَ عليه من جهة أخرى، وهو أنه يشهدَ حظَّه ونفْعَه المتعلق بتلك الجهة، ويغيب عن نفع غيره بسواها؛ لأن نفعه مشاهدٌ له أقرب إليه من علمه بنفع غيره، فيفضِّلُ


(١) (ق): "سر التفضيل".