لما علم أن هذا التَّحويلَ أمر كبيرٌ، كيف وطَّأهُ ومهَّدَهُ وذلَّلَهُ بقواعدَ قَبْلَه، فذكر النسخَ، وأنه إذا نَسَخَ شيئًا أتى بمثلِه أو خيرٍ منه، وأنه قادرٌ على ذلك فلا يعْجزهُ، ثم قرَّر التسليمَ للرسول، وأنه لا ينبغي أن يُعتَرَضَ عليه، ويسأل تَعنتًا، كما جرى لموسى مع قومِه، ثم ذكر البيتَ الحرامَ وتعظيمه وحُرْمَتَهُ، وذكَرَ بانِيه وأثنى عليه، وأوجب اتِّباعَ مِلَّتِهِ فقرَّر في النفوس بذلك توجهها إلى هذا البيتِ بالتعظيمِ والإجلالِ والمحَبَّة، وإلى بانِيه بالاتِّباع والموالاةِ والموافقةِ، وأخبر تعالى أنه جعل البيتَ مثابةً للناس، يثُوبون إليه ولا يقضون منه وطَرًا، فالقلوب عاكفة على محبَّته، دائمة الاشتياقِ إليه، متوجِّهة إليه حيث كانت، ثم أخبر أنه أمَرَ إبراهيمَ وإسماعيلَ بتطهيرِه للطَّائفينَ والقائمينَ والمُصَلِّين، وأضافَهُ إليه بقوله:{طَهِّرَا بَيْتِيَ}[البقرة: ١٢٥]، وهذه الإضافةُ هي التي أسْكَنَتْ في القلوب من محبَّتِهِ والشوقِ إليه ما أسكنَتْ، وهي التي أقبلَتْ بأفئدةِ العالَم إَليه، فلما استقرَّتْ هذه (ظ/ ٢٦٠ أ) الأمور في قلوبِ أهل الإيمان وذُكَروا بها، فكأنَّها نادتهم: أن استقبلوه في الصَّلاة، ولكن توقفَتْ على ورود الأمر من ربِّ البيت، فلما برز مرسوم:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة: ١٤٤]، تلقَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والراسخون في الإيمان بالبشرى والقَبولِ، وكان عيدًا عندَهم؛ لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان كثيرًا ما يُقَلِّب وجهَه في السَّماءِ ينتظرُ أن يُحَوِّلَه الله عن قبلةِ أهلِ الكتابِ، فولَّاه اللهُ القبلةَ التي يرضاها، وتلقَّى ذلك الكفارُ بالمعارضةِ وذِكْر الشبهاتِ الدَّاحِضَةِ، وتلقَّاه الضعفاء عن المؤمنينَ بالإغماضِ والمشقةِ.
فذكَرَ تعالى أصنافَ الناس عند الأمرِ (١) باستقبالِ الكعبةِ، وابتدأ
(١) من قوله "وتلقاه الضعفاء ... " إلى هنا ساقط من (ق).