للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الغابة مضافة إليه، فقال: {مِنَّا رَحْمَةً}، وأتى في السيئة بباء السببية مضافة إلى كسب أيديهم، وكيف أكَّد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف "إن" دون الجملة الثانية؛ وأسرار القرآن أكثر وأعظم من أن يحيط بها عقول البشر.

وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: ٦٧] كيف أتى بـ "إذَا" ها هنا لما كان مسّ الضر لهم في البحر محقّقًا، بخلاف قوله: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (٤٩)} (١) [فصلت: ٤٩] فإنه لم يقيد مَسّ الشر هنا، بل أطلقه، ولما قيده بالبحر الذي هو (٢) يتحقَّق فيه ذلك أتى بأداة "إذا".

وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (٨٣)} [الإسراء: ٨٣] كيف أتى هنا بـ "إذا" المشعرة بتحقيق الوقوع المستلزم لليأس، فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الشر له، فكان الإتيان بـ "إذا" كانا أدلَّ على المعنى المقصود من "إن", بخلاف قوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (٥١)} [فصلت: ٥١] فإنه لقلة صبره وضَعْف احتماله، متى توقع الشر أعرض وأطال في الدعاء. فإذا تحقق وقوعه كان يؤوسًا. ومثل هذه الأسرار في القرآن لا يرقى إليها إلا بموهبة من الله وفهم يؤتيه عبدًا في كتابه.

فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ


(١) في جميع النسخ: "لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسَّه الشر فذو دعاءٍ عريض"! وهذا تلفيق بين آيتي فُضَلت رقم (٤٩، ٥١) فالأولى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (٤٩)}، والثانية: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (٥١)}.
(٢) ليست في (ق).