للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقيل في ذلك وجه رابع، وهو: قَصْد ازدواج الكلام [أصلٌ] (١) في البلاغة والفصاحة، مثل قوله تعالى: {نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: ٦٧]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: ١٩٤]، فكذلك: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢)} [الكافرون: ٢] ومعبودهم لا يعقل، ثم ازدَوَجَ مع هذا الكلام قوله تعالى: (ق/٥٣ أ) {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣)} [الكافرون: ٥]، فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان، ولهذا لا يجيء في (٢) الإفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا "من" كقوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ}، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} [يونس: ٣١]، {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ} [يونس: ٣١] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: ٦٣]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: ٦٢]، {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [النمل: ٦٤] إلى أمثال ذلك.

وعندي فيه وجه خامس أقرب من هذا كله، وهو: أن المقصود هنا ذِكْر المعبود الموصوف بكونه أهلاً للعبادة مستحقًّا لها، فأتى بـ "ما" الدالة على هذا المعنى كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق، ولو أتى بلفظة "من"؛ لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذِكْر الصِّلة تعريفًا لا أنه هو جِهَة العبادة، ففَرْقٌ بين أن (٣) كونه -تعالى- أهلاً لأن يعبد تعريفٌ محض، أو وصف مقتضٍ لعبادته، فتأمله فإنه بديع جدًّا.

وهذا معنى قول محققي النحاة: إن "ما" تأتي لصفات من يعلم، ونظيره: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: ٣] لما كان المراد


(١) من "النتائج".
(٢) ليست في (ظ ود).
(٣) (ظ ود) زيادة: "يكون".