للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

موصوف واحد. فإذا قيل: هو الأول، ربما سَرَى الوهم إلى أن كونه أولاً يقتضي أن يكون الآخر غيره؛ لأن الأولية والآخرية من المتضايفات. وكذلك "الظاهر والباطن" إذا قيل: هو الظاهر ربما سَرَى الوهم إلى أن الباطن مقابله، فقطع هذا الوهم بحرف العطف الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية، فكأنه قيل: هو الأول وهو الآخر لا غيره (١)، وهو الظاهر وهو الباطن لا سواه، فتأمل ذلك فإنه من لطيف العربية (ق/٧٥ ب) ودقيقها.

والذي يوضح لك ذلك: أنه إذا كان للبلد مثلاً قاض وخطيب وأمير، فاجتمعت في رجل، حَسُنَ أن تقول: زيد هو الخطيب والقاضي والأمير، وكان للعطف هنا مَزِية ليست للنعت المجرَّد، فعَطْف الصفات هاهنا أحسن، قطعًا لوهم متوهم أن الخطيب غيره وأن الأمير غيره.

وأما قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: ٣] فعَطَف في الاسمين الأوَّلين دون الآخرين. فقال السهيلي (٢): إنما حَسُن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال، وفعله سبحانه في غيره لا في نفسه، فدخل حرفُ العطفِ للمغايرة الصحيحة بين المعنيين، ولتنزلهما منزلةَ الجملتين؛ لأنه يريد تنبيهَ العبادِ على أنه يفعل هذا ويفعل هذا، ليرجُوْه ويؤمِّلوه. ثم قال: {شَدِيدِ الْعِقَابِ}، بغير واو؛ لأن الشدة راجعة إلى معنى القوة والقدرة، وهو معنى خارج عن صفات الأفعال، فصار بمنزلة قوله: {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢)} وكذلك قوله: {ذِي الطَّوْلِ}؛ لأن لفظ "ذي" عبارة عن ذاته.


(١) من (ق).
(٢) في "نتائج الفِكْر": (ص/ ٢٣٩).