للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السحت والبغي وقتل الأنبياء، ووبَّخَ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق، فالشقاءُ والكفر ينشأ من عدمِ معرفةِ الحقِّ تارةً، ومن عدمِ إرادتِهِ والعملِ [به] أُخْرى، ويتركَّبُ منهما، فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به، وإيثار غيره عليه بعد معرفته، فلم يكن ضلالًا محضًا؛ وكفر النصارى نشأَ من جهلهم بالحقِّ وضلالهم فيه، فإذا تبيَّن لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمةَ الغضبية وبقوا مغضوبًا عليهم ضالين.

ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره، وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق، والبغي يمنعه من إرادته؛ كان العبدُ أحوجَ شيء إلى أن يسأل الله -تعالى- كلَّ وقتٍ أن يهديه الصراط المستقيم: تعريفًا وبيانًا (١)، وإرشادًا وإلهامًا، وتوفيقًا وإعانة، فيعلمه ويعرفه؛ ثم يجعله مريدًا له قاصدًا لاتباعه، فيخرج بذلك عن طريقة "المغضوب عليهم" الذين عَدَلوا عنه على عَمْد وعِلْم، و"الضالين" الذين عدلوا عنه عن جَهْلٍ وضلال.

وكان السلف يقولون (٢): "من فسدَ من علمائنا ففيه شَبَه من اليهود، ومن فَسَد من عُبَّادنا ففيه شَبَه من النصارى"، وهذا كما قالوه؛ فإن من فَسَد من العلماء فاستعملَ أخلاق اليهود من تحريف الكَلِم عن مواضعه، وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه، وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله، وقتل الذين يأمرون بالقِسْط


(١) (ق): "وثباتًا".
(٢) قاله سفيان بن عُيينة، انظر "البداية والنهاية": (١٤/ ٨٢١) وذكره ابن تيمية في كتبه كثيرًا معزوًّا إلى ابن عيينة وغيره.