للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منزلة المواجه، لحكمةٍ بديعةِ جدًّا، وهي: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما كان أحبَّ إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه، وأولى به منها وأقرب، وكانت حقيقته الذهنية ومثاله العلمي موجودًا في قلبه بحيث لا يغيب عنه إلا (١) شخصه، كما قال القائل:

مِثالُكَ في عَيْني وذِكْرُك في فَمِي ... ومَثواكَ في قَلْبي فأينَ تَغِيبُ (٢)!

ومن كان بهده الحال فهو الحاضر حقًا، وغيره وإن كان حاضرًا للعيان فهو غائب عن الجَنان، فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه، أولى من سلام الغيبة، تنزيلاً له منزلةَ المواجِهِ المُعَايِن لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزء إلا ومحبته وذكره فيه، كما قيل لو شُقَّ عن قلبي يُرَى وسطه ذكرك.

والتوحيد في شطر "لا إله إلا الله محمد رسول الله،، ولا تستنكر استيلاء المحبوب على قلب المحب وغلبته عليه حتى كأنه يراه، ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة مع غاية البعد العياني، لكمال القرب الروحي، فلم يمنعهم بُعد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها، ومن كَثُفَت طباعُه فهو عن هذا كله بمعزل، وأنه ليبلغ الحبُّ ببعضِ أهله أن يرى محبوبَه في القرب إليه (٣) بمنزلة روحِه التي لا شيءَ أدنى إليه منها، كما قيل:


(١) سقطت من (ق).
(٢) ذكره ابن القيم في "روضة المحبين": (ص/ ٢١)، والأبشيهي في "المستطرف": (١/ ٧٤) بلا نسبة؛ لكن أوله: "خيالك ... ".
(٣) (ق): "والبعد".