للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الله أمرًا كان مفعولاً. فلو تَيَقَّظَ حقَّ التَّيَقُّظِ لتقطَّعَتْ نفسُه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظِّه العاجل والآجل من الله, وإنما يظهرُ له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم, والإشراف والاطِّلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (٢٤)} [الفجر: ٢٤] و {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: ٥٦].

ولما كان الشرُّ هو الآلامَ وأسبابها, كانت استعاذاتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعُها مدارها على هذين الأصلين, فكل ما استعاذَ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو: إما مؤلمٌ وإما سبَبٌ إليه. فكان يتعوَّذُ في آخر الصلاة من أربع, وأَمَر بالاستعاذة منهن, وهي: "عذاب القبر, وعذاب النار", فهذان أعظم المؤلمات, و"فتنة المحيا والممات, وفتنة المسيح الدجال" (١). وهذان سبب العذاب المؤلم, فالفتنةُ سبب العذاب, وذَكَر الفتنةَ خصوصًا وعمومًا, وذكر نوعي الفتنة, فإن الفتنة إما في الحياة وإما بعد الموت, ففتنةُ الحياة قد يَتَراخى عنها العذاب مدَّة, وأما فتنة الموت فَيَتَّصلُ بها العذابُ من غير تراخٍ, فعادت الاستعاذةُ إلى الألم والعذاب وأسبابهما, وهذا من آكَدِ أدعية الصلاة حتى أوجب بعضُ السَّلف والخَلَف الإعادةَ على من لم يَدْعُ به في التَّشَهُّد الأخير, وأوجبه ابنُ حزم في كل تشهد فإن لم يأتِ به بَطَلَتْ صَلَاتُهُ (٢).

ومن ذلك قوله: "اللَّهُمَّ إني أعوذُ بكَ من الهَمِّ والحَزَنِ والعَجْزِ


(١) أخرجه البخاري رقم (١٣٧٧) , ومسلم رقم (٥٨٨) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(٢) انظر "المحلى": (٣/ ٢٧١).