للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

" مِنْ " ههنا لتخليص جنس من أجناس.

المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو وَثَنٌ (١).

وقوله: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

الزور الكذب، وقيل إنه ههنا الشرْكُ باللَّهِ، وقيل أيضاً شهادَةُ الزور.

وهذا كله جائز.

والآية تدل - واللَّه أعلم - على أنهم نُهُوا أن يُحرمُوا ما حَرم

أصحابُ الأوْثانِ نحو قولهم: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورِنا ومحرم

على أزواجنا، ونحو نحرهم البَحيرَةَ والسائِبَةَ، فأعلمهم اللَّه أنَّ الأنْعَامَ مُحَلًلَة

إلَّا ما حرَّمَ اللَّهُ منها، ونهاهم الله عن قول الزور أن يقولوا هذا حلال وهذا

حرام لِيَفْتَروا على اللَّهِ كَذِباً.

* * *

وقوله: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (٣١)

(حُنَفَاءَ لِلَّهِ)

منصوب على الحال، وتأويله مُسْلِمِين لا يَمِيلُونَ إلى دِينٍ غير الإسلام.

وقوله: (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ).

ويقرأ فَتَخْطَفهُ الطيرُ وفَتَخِطَّفُهُ. وقرأ الحسن فَتِخِطِّفُهُ بكسر التاء والخاء

والطاء.

فمن قرأ فتَخْطَفُه بالتخفيف فهو من خَطِفَ يخطَفُ، والخَطْفُ الأخْذُ

بسرعة، ومن قرأ فتَخطِّفُه - بكسر الطاء والتشديد - فالأصل فَتَخْتَطِفه فأدغم التاء في الطاء وألقى حركة التاء على الخاء ففتحها، ومن قَالَ بكسر الخاء والطاء، كسر الخاء لسكونها وسُكُون الطاء، ومن كسر التاء والخاء والطاء - وهي قراءة الحسن - فهو على أن الأصل تَخْتَطِفُه.

وهذا مثل ضَرْبةِ الله للكافر في بُعْده عِنَ الحق - فأعلمَ اللَّهُ أن بُعْدَ من

أشْركَ به مِنَ الحق كبُعْدِ مَنْ خرَّ من السماء فذهبت به الطير أو هَوَتْ به الريحُ في مكانٍ سحيق - أي، بَعِيدٍ (٢).


(١) قال السَّمين:
قوله: {مِنَ الأوثان} في «مِنْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لبيانِ الجنسِ، وهو مشهورُ قول المُعْرِبين، ويَتَقَدَّرُ بقولك: الرِّجْسُ الذي هو الأوثان. وقد تقدَّم أنَّ شرطَ كونِها بيانيةً ذلك. وتجيءُ مواضعُ كثيرةٌ لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضُه. والثاني: أنَّها لابتداءِ الغايةِ. وقد خَلَط أبو البقاء القولين فجَعَلَهما قولاً واحداً فقال: «ومِنْ لبيانِ الجنسٍ أي: اجْتَنِبوا الرجسَ من هذا القبيل، وهو بمعنى ابتداء الغاية ههنا» يعني أنه في المعنى يَؤُول إلى ذلِك، ولا يَؤُول إليه ألبتَّةََ. الثالث: أنها للتبعيض. وقد غَلَّط ابنُ عطية القائلَ بكونِها للتبعيضِ، فقال: «ومَنْ قال: إن» مِنْ «للتبعيض قَلَبَ معنى الآيةِ فأفسده» وقد يُمْكِنُ التبعيضُ فيها: بأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عبادة الأوثانِ. وبه قال ابنُ عباس وابنُ جريج، فكأنه قال: فاجْتَنِبوا من الأوثانِ الرِّجسَ وهو العبادةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ من الأوثان إنما هو العبادةُ ألا ترى أنه قد يُتَصَوَّرُ استعمالُ الوثَنِ في بناءٍ وغيرِه ممَّا لم يُحَرِِّمِ الشرعُ استعمالَه، وللوَثَنِ جهاتٌ منها عبادتُها، وهي بعض جهاتِها. قاله الشيخ. وهو تأويلٌ بعيدٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: {فَتَخْطَفُهُ} قرأ نافعٌ بفتحِ الخاءِ والطاء مشددةً. وأصلُها تَخْتَطِفُه فأدغم. وباقي السبعةِ «فَتَخْطَفُه» بسكون الخاء وتخفيفِ الطاء. وقرأ الحسنُ والأعمشُ وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد. ورُوِي عن الحسن أيضاً فتحُ الطاءِ مشددةً مع كسرِ التاءِ والخاءِ. ورُوِي عن الأعمش كقراءةِ العامَّةِ إلاَّ أنه بغير فاء: «تَخْطَفُه». وتوجيهُ هذه القراءاتِ قد تقدَّم مستوفى في أوائل البقرة عند ذِكْري القراءاتِ في قولِه تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ} [البقرة: ٢٠] فلا أُعيدها.
وقرأ أبو جعفر «الرياحُ» جمعاً. وقولِه «خَرَّ» في معنى يَخِرُّ؛ ولذلك عُطِفَ عليه المستقبلُ وهو «فَتَخْطَفُهُ»، ويجوز أن يكون على بابه، ولا يكونُ «فَتَخْطَفُه» عطفاً عليه، بل هو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: فهو يَخْطَفُه.
قال الزمخشري: «ويجوزُ في هذا التشبيهِ أن يكونَ من المركب والمفرَّق. فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: مَنْ أشرك بالله فقد أهلكَ نفسَه إهلاكاً ليس بعده [هلاكٌ]: بأَنْ صَوَّر حالَه بصورةِ حالِ مَنْ خَرَّ من السماءِ فاخْتَطَفَتْه الطيرُ، فتفرَّق مِزَعاً في حَواصلِها، أو عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به في بعض المطاوحِ البعيدةِ. وإن كان مُفَرَّقاً فقد شَبَّه الإِيمانَ في عُلُوِّه بالسماءَ، والذي تركَ الإِيمانَ وأشرك بالله، بالساقط من السماء، والأهواءَ التي تتوزَّعُ أفكارَه بالطير المتخطفةِ، والشيطانَ الذي يُطَوِّحُ به في وادي الضَّلالةِ بالريح التي تهوي بما عَصَفَتْ به في بعض المهاوي المُتْلِفَةِ». قلت: وهذه العبارةُ من أبي القاسم مما يُنَشِّطُك إلى تَعَلُّم عِلْمِ البيان فإنها في غاية/ البلاغة.
والأَوْثان: جمع وَثَن. والوَثَنُ يُطْلَقُ على ما صُوِّر من نحاسٍ وحديدٍ وخَشَبٍ. ويُطْلَقُ أيضاً على الصَّليب. «عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً: أَلْقِ هذا الوثنَ عنك» وقال الأعشى:
٣٣٨٧ يطوفُ العبادُ بأبوابِه. . . كطَوْفِ النصارى ببَيْتِ الوَثَنْ
واشتقاقُه مِن وَثَن الشيءُ أي: أقام بمكانه وثَبَتَ فهو واثِنٌ. وأُنشد لرؤبة:
٣٣٨٨ على أَخِلاَّء الصَّفاءِ الوُثَّنِ. . . أي: المقيمين على العهد. وقد تقدَّم الفرقُ بين الوَثَنِ والصنم.
والسَّحيقُ: البعيدُ. ومنه سَحَقَه اللهُ أي: أبعده. وقوله عليه السلام: «فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً» أي: بُعْداً بُعْداً. والنَّخْلة السَّحُوقُ: الممتدةُ في السماء، من ذلك.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

<<  <  ج: ص:  >  >>