للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهل تقتضي محاسنُ هذه الشَّريعة الكاملة إلَّا هذا؟! وهل يَشُكُّ أحدٌ في أن كثيرًا من القرائن تُفيدُ علمًا أقوى من الظَّنِّ المستفاد من الشَّاهدين بمراتبَ عديدة؛ فالعلمُ المستفادُ من مشاهدة الرجل مكشوفَ الرأس وآخَرَ هارب قدَّامَه، وبيده عِمَامَهٌ، وعلى رأسه عِمَامَةٌ، فالعلم بأن هذه عمامة المكشوفِ رأسُهُ كالضَّروريّ، فكيف تقدّم عليه (١) اليَدُ التي إنما تُفيدُ ظنًّا ما عند عدم المعارضة؟! وأما مع هذه المعارضة فلا تُفيدُ شيئًا سوى العلم بأنها يدٌ عادِيَهٌ، فلا يجوزُ الحكم بها ألبتة، ولم تأتِ الشريعة بالحكم لهذه اليد وأمثالها ألبتَّةَ.

وقد أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الملتقِطَ أن يدفعَ اللُّقَطَةَ إلى واصِفِها (٢)، وقد نصَّ أحمد على اعتبار الوصف عند تنازع المالك والمستأْجِر في الدَّفين في الدار، وهذه من محاسنِ مذهبه، ونصَّ على البلدَ يُفْتَحُ فيوجد فيه أبواب مكتوبٌ عليها بالكتابة القديمة أنها وقفٌ، أنه يحكم بذلك لقوَّة هذه القرينة، وهل الحكم بالقَافَة إلا حكم بقرينة الشَّبَه، وكذلك اللَّوْث في القَسَامة، حتى إنَّ مالكًا وأحمد في إحدى الروايتين يقيِّدانِ بها وهو الصَّوَابُ الذي لا رَيْبَ فيه، وكذلك الحكم بالنُّكول إنما هو مستنِدٌ إلى قوة القرينة الدَّالَّة على أن النَّاكل غيرُ محقٍّ.

وبالجملة؛ فالبَيِّنَةُ: اسمٌ لكل ما يُبَيِّنُ الحق، ومن خصَّها بالشاهدين فلم يُوَفِّ مُسمَّاها حقَّهُ، ولم تأتِ البينةُ في القرآن قطُّ مرادًا بها الشاهدان،


(١) (ع): "على".
(٢) أخرجه البخاري رقم (٩١)، ومسلم رقم (١٧٢٢) من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه-.