للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَنفَى سبحانه أن يكونَ أمَرَ عبادَهُ بغير العبادة التي قد أخلص عاملُها له فيها النِّيَّة، ومعلوم أن إخلاص النِّيَّةِ للمعبود أصلٌ لنية أصل العبادة، فإذا لم يأمرْهم إلا بعمل هو عبادةٌ قد أخلص عاملُها النيَّةَ فيها (١) لرَبِّه عز وجل، ومعلومٌ أن النية جزءٌ من العبادة، بل هي رُوح العبادة، كما تبيَّنَ = عُلِم أن العمل الذي لم يُنْوَ ليس بعبادة ولا مأمور به، فلا يكونُ فاعلُه متقرِّبًا به إلى الله، وهذا مما لا يقبلُ نزاعًا.

ومن نُكَت المسألة: أن يفرَّقَ بين الأفعال التي لا تقعُ إلا منويَّةً عادة وبين الأفعال التي تقع منويةً وغيرَ منوية، فالأول: كالوضوء المرتَّب عضوًا بعد عضو، فإنه لا يكادُ يُتَصَوَّرُ وقوعُه من غير نية، فإن (ق/ ٢٨٠ أ) عِلْم الفاعل بما يفعلُه وقَصْده له هو النية، والعاقلُ المختار لا يفعلُ فعلاً غلا مسبوقًا بتصوره وإرادته، وذلك حقيقة النية، فليست النية أمرًا خارجًا عن تصوُّر الفاعل وقصده لما يريد أن يفعله.

وبهذا يعْلمُ غلطُ من ظن أن للتَّلَفُّظ (٢) مدخلاً في تحصيل النِّيَّة، فإن القائل إذا قال: "نويتُ صلاةَ الظهر، أو نويتُ رفع الحَدَث"، إما أن يكون مخْبرًا أو منشئًا، فإن كان مخبِرًا؛ فإما أن يكون إخبارُه لنفسه أو لغيره، وكلاهما عبَثٌ لا فائدة فيه؛ لأن الإخبار إنما يفيد إذا تضمَّن تعريفَ المخبر ما لم يكن عارفًا به، وهذا مُحالٌ في إخباره لنفسه، وإنْ كان إخبارًا لغيره بالنية، فهو عَبَثٌ محضٌ، وهو غيرُ مشروع ولا مفيدٌ، وهو بمثابة إخباره له بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجه وزكاته، بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحُبِّه وبغضه، بل قد تكونُ في هذا الإخبار فائدةٌ، وأما إخبار المأمومين أو الإمام


(١) من قوله: "ومعلوم أن ... " إلى هنا ساقط من (ظ).
(٢) (ع): "التلفظ"، و (ظ): "اللفظ".