والابنُ لا يكرهُ لقاءَ أبيه، لاسيَّما إذا عَلِمَ أن كرامَتَه ومثوبته مختصَّة به، بل أحبُّ شيء إليه لقاءُ حبيبه وأبيه، فحيثُ (ظ/ ٢٥٧ ب) لم يحبَّ ذلك ولم يَتمنَّهُ، فهو كاذبٌ في قوله، مبطِلٌ في دعواه.
ونظير هذا قوله في سورة (المائدة) ردًّا عليهم قولَهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}[المائدة: ١٨] يعني. أنَّ الأب لا يُعَذِّبُ ابنَهُ، والحبيبُ لا يُعَذِّبُ حبيبَهُ.
وها هنا نكتةٌ لطيفةٌ جدًّا قلّ من يَنْتَبِهُ لها، ونحنْ نُقَرَّرها بسؤالٍ وجوابٍ.
فإن قيل: معلومٌ أن الأبَ قد يؤَدبُ وَلَدَهُ إذا أذنبَ، والحبيبُ قدِ يهجُرُ حبيبَه إذا رأى منه بعض ما يكرهُ.
قيل: لو تأمَّلْتَ أيُّها السائلَ قوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} لعلمتَ الفرقَ بين هذا التعذيبِ وبين الهجران والتأديب، فإنَّ التعذيبَ بالذنب ثمرةُ الغَضَب المنافي للمحبَّةِ، فلو كانت المَحبةُ قائمة كما زعموا لم يكنْ هناكَ ذنوبٌ يستوجبون عليها العذابَ، من المسخِ قردة وخنازيرَ، وتسلُّط أعدائهم عليهم يستبيحونهم ويستعبدونهم، ويُخرَبوِن مُتعَبَّدَاتِهم ويسبونَ ذرارِيهم، فالمحبُّ لا يفعلُ هذا بحبيبِه ولا الأبُ بابِنهِ.
ومعلومٌ أنَّ الرحمن الرحيم لا يفعلُ هذا بأمَّةٍ إلا بعد فَرْط إجرامِها وعُتُوِّها على الله، واستكبارِها عن طاعتِهِ وعبادتِه، وذلك يُنافي كونهم أحبابَهُ، فلو أحبُّوه لما ارتكبوا من غضبهِ وسَخَطِهِ ما أوجبَ لهم ذلك، ولو أحبَّهم لأدَّبهم ولم يُعذِّبْهم، فالتأَديبُ شيءٌ والتَّعذيبُ (ق/ ٣٧١ أ) شيء، والتأديبُ يُرادُ به التهذيبُ والرحمةُ والإصلاحُ، والتعذيبُ