بالدَّليلِ"، فمن ادَّعى دعوى بلا دليل يُقالُ له: هاتِ برهانَكَ إن كنتَ صادقاً فيما ادَّعَيْتَ، ويحتجُّ بهذه الَآيةِ من يقولُ: يلزم النّافي الدَّليل كما يلزمُ المُثبِت، وحَكَوْا في ذلك ثلاثَ مذاهب.
ثالثها: يلزمُهُ في الشرعيات دون العقليات، واستدلالُهم بالآية (ظ/٢٥٨ أ) لا يصِحُّ؛ لأن الله تعالى لم يطالبهم بدليلِ النَّفْيِ المجرَد، بل ادعوا دعوى مضمونُها إثبات دخولهم الجنَّةَ، وأن غيرَهم لم يدخُلْها (١)، فطولبوا بالدليل الدّالِّ على هذه الدعوى المركَّبة من النفْي والإثباتِ، وصاحبُ هذه الدعوى يلزمُهُ الدليل باتَفاق الناس، وإنما الخلافُ في النفي المُجَرَّدِ.
ولو استَدلَّ هؤلاء بقوله تعالى:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}[البقرة: ٨٠]؛ لكان أقربَ، مع كونهِ متضمِّنا للنفي والإثبات، لكن الدعوى فيه إنما توجَّهَتْ إلى (ق/ ٣٧١ ب) النفي ومقصودُ الكلام: إنا لا نعَذَّبُ بعد تلك الأيام، فلم يُنْكِرْ عليهم اعترافَهم بالتَّعذيب تلك الأيام، بل دعواهم أنهم لا يعَذَّبون بعدَها، وذلك نفْيٌ محضٌ، فلذلك قلنا: إن الاستدلال بها أقربُ من هذه الآية.
وبعد؛ فالتحقيقُ -في مسألة النافي هل عليه دليلٌ-: أن النفيَ نوعان:
نوع: مستلزمٌ لإثباتِ ضدِّ المنفي، فهذا يَلْزَمُ النافيَ فيه الدليل، كمن نفى الإباحةَ، فإنه يطالَبُ بالدليل قطعاً؛ لأن نفيَها يستلزمُ ثبوتَ ضدّ من أضدادِها، ولا بد له من دليل، وكذلك نفي التعذيب بالنّار بعد الأيامِ المعدودة، يستلزمُ دخولَ الجنةِ والفوز بالنعيمِ، ولا بُد له من دليل.