للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقولهم: "اتقَى اللهَ أمرؤٌ" (١). وهو كثيرًا, فجاء بلفظ الخبر الحاصل تحقيقًا لثبوته، وأنه مما ينبغي أن يكون واقعًا ولابد، فلا يطلب من المخاطب إيجاده، بل يخبر عنه (٢) لتحقّقه خبرًا صِرْفًا، كالإخبار عن سائر الموجودات.

وفيه طريقة أخرى وهي أفقه معنًى من هذه، وهو: أَنَّ هذا إخبار محض عن وجوب ذلك واستقرار حسنه في العقل والشريعة والفطرة، وكأنهم يريدون بقولهمِ: "أنجزَ حُرٌّ ما وَعَد"، أي: ثبتَ ذلك في المروءة واستقرَّ في الفِطر. وقول عمر -رضي الله عنه- "صلَّى رجلٌ في إزاء ورداء ... " الحديث (٣)، أي: هذا مما وجب في الديانة وظهر وتحقَّق من الشريعة، فالإشارة إلى هذه المعاني حَسَّنت صرفَه إلى صورة الخبر، وإن كان أمرًا، وهذا (٤) لا يكاد يجيء الاسم بعده إلا نكرة، لعمومِ هذا الحكم وشيوع النكرة في جنسها، فلو جعلت مكان النكرة في هذه الأفعال أسماء مُعَرَّفة تمحَّضَ فيها معنى الخير وزال معنى الأمر، فقلت: "اتقى اللهَ زيدٌ" و"أنجزَ عَمْرو ما وعد"، فصار خبرًا لا أمرًا.

وهذا موضع المسألة المشهورة وهي: مجيء الخبر بمعنى الأمر في القرآن في نحو قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: ٢٣٣]، و {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: ٢٢٨] ونظائره، فمن سلك المسلكَ


(١) قاله الحارث بن هشام المخزومي. انظر: "الاستيعاب -بهامش الإصابة": (١/ ٣١١).
(٢) (ظ ود): "عنه به".
(٣) تقدم.
(٤) (ظ ود): "زائدًا".