ظن هذا الظن ونزَّه نفسه عنه، فدل على أنه مستقرٌّ فِي الفِطَر والعقول السليمة: أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعِزَّته وإلاهيته، لا إله إلَّا هو، تعالى عما يقولُ الجاهلون علوًّا كبيرًا.
وقد فطرَ اللهُ عقولَ عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضعِ الرحمة والإحسان، ومكافأة الصُّنع الجميل بمثله وزيادة، فإذا وضعَ العقوبة موضعَ ذلك استنكرته فِطَرُهُمْ وعقولُهم أشدَّ الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان، وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيءُ إلى العالمَ بأنواع الإساءة في كلِّ شيءٍ من أموالهم وحريمهم ودمائهم، فأكرمَه غايَةَ الإكرام ورفعه وكرَّمه، فإن الفِطَر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهدُ على سَفَه من فعله.
هذه فطرةُ الله التي فَطَر الناسَ عليها، فما للعقول والفِطَر لا تشهدُ حكمتَه البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أَوْلى المحالّ بها: وأحقِّها بالعقوبة؛ وأنها لو أوليت النِّعَمَ لم تحسنْ بها ولم تَلِقْ, ولظهرت مناقضةُ الحكمة، كما قال الشاعر:
نِعْمَةُ اللهِ لا تُعَابُ ولَكِنْ ... ربَّما استُقْبِحَتْ علي أَقْوامِ
فهكذا نعمُ الله لا تليقُ ولا تَحْسُنُ ولا تجمُلُ بأعدائه الصَّادِّين عن سبيله، السَّاعين في خلاف مرضاته، الذين يَرْضَوْنَ إذا غضب، ويغضبُون إذا رَضِيَ، ويعطِّلون ما حكم به، ويَسْعَوْن في أن تكون الدعوةُ لغيره، والحكمُ لغيره، والطاعةُ لغيره، فهم مضادُّون في كلِّ ما يُريدُ، يحبُّون ما يُبغِضُه ويدعون إليه، ويُبغضون ما يُحِبُّه وينفرون عنه، ويوالون أعداءَهُ وأبغضَ الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى