للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفسُ الحمد والثناء متضمِّنٌ لأعظم الطَّلَب، وهو طلب المحب، فهو دعاءٌ حقيقة، بل أحقُّ أن يسمَّى دعاءً من غيره من أنواع الطَّلَب الذي هو دونه، والمقصود أنَّ كلَّ واحد من الدُّعاء والذكر يتضمَّنُ الآخرَ ويدخلُ فيه، وقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: ٢٠٥] فأمر تعالى نَبيَّهُ أن يذكَرَهُ في نفسه.

قال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح (١). وقد تقدم (٢) حديث أبي موسى: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: "يا أيّها النَّاسُ ارْبَعُوا على أنفُسِكُمْ، فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غَائِبًا، إنما تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، أقْرَبَ إلى أحدِكُمْ من عُنُق راحلتِهِ". وتأمل كيف قال في آية الذكر: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}، وفي آية الدعاء: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، فذكر التَّضَرُّعَ فيهما معًا وهو التَّذَلُل والتَّمَسْكُن والانكسار، وهو روح الذِّكر والدُّعاء.

وخصَّ الدُّعاءَ بالخِفْية لِمَا ذكرنا من الحكم وغيرها (٣)، وخصَّ


(١) أسنده عنهما ابن جرير: (٦/ ١٦٥).
(٢) (٣/ ٨٤٤).
(٣) في هامش (ع) حاشية طويلة نصُّها: "قال الشيخ تقي الدين فى "المقترح": أخبرنا بسنده روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الذكر الخفيّ" قال جماعة من أهل الحديث: هذا إشارة إلى ذكر الله تعالى سِرًّا. قال أرباب التصوّف: ذلك خفيّ بالنسبة إلى السامع لا بالنسبة إلى الذاكر، فشرطه أن يتمكن الذكر من القلب حتى يتمكن إلى حالة يستغرق عن الذكر، فيكون خفيًا بالنسبة إليه. وفيه اشكال، ويحتمل احتمالًا آخر وهو: الفكر والاستدلال بعجائب المصنوعات على مبدعها، والله أعلم بالمراد". =