وإنك لترى الإعياء يبلغ مبلغه بمن يرافقون سماحته، ويعملون معه مع أنهم في قوتهم ونشاطهم، ومع أنهم مجموعة يتعاقبون العمل، ويتناوبون على القراءة عليه، ومرافقته، ومع أنهم يجدون متعة ولذة في العمل معه، ومع أنهم متفرغون له، ومع أن سماحته كبير في السن، ويقوم بأعمال متنوعة كثيرة.
ومع ذلك كله؛ تجد أن سماحة الشيخ يقوم بالأعمال العظيمة بمنتهى اليسر، والسهولة، والسرور، والسكينة، يستوى بذلك حاله في السفر، أو الحضر، أو الصحة، أو المرض.
والشواهد والقصص في هذا السياق لا يمكن حصرها ..
وإليك هذه الحادثة العجيبة التي تبين حال هذا الإمام في صبره وجلده، وتوفيق الله وإعانته له (١):
في عام ١٤١٣ هـ كان سماحة الشيخ في مكة المكرمة، ودعي إلى افتتاح أحد المراكز الدعوية في جدة، وألحوا عليه أن يكون الحضور بعد صلاة المغرب؛ حتى لا يطول أمد الحفل إلى ساعات متأخرة.
فقال سماحته: ما يكون إلا الخير، وعندما صلى المغرب قلنا له: نذهب الآن إلى جدة؟
لكن سماحته لم تطب نفسه بترك المجلس بعد المغرب، فقال: بل نذهب إلى مجلسنا المعتاد، وننظر في حاجات الناس، فقلنا له: إذًا نتأخر في الحضور، ونتأخر في الرجوع، فقال: ولو! يعين الله، فجلس في مجلسه المعتاد، ونظر في حاجات الناس، وقرئ عليه ما شاء الله أن يُقرأ، وأجاب على الأسئلة الموجهة إليه، حتى إنني حسبت له ستين
(١) وكان عمر الشيخ حينها قرابة (٨٣) سنة عليه رحمة الله، وهنا يظهر أثر أعمال القلوب بإمداد الله له بقوة من عنده، تمكنه من القيام بجلائل الأعمال وأشدها على النفوس، يقوم بها بخفة ونشاط عجيب؛ لأن المحرك للبدن هو القلب، فما ضعفت الأبدان من القيام بالأعمال على رغم وجود الشباب والقوة إلا بسبب ضعف القلوب، وكان الشيخ رحمه من القلائل الذين يتميزون بسلامة القلب وصلاحه وتقواه، ولا أزكيه على الله.