للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: ١٣]، وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرِّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة.

فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها" (١).

[الفرع الثاني: تعلق القلب بالله وكثرة الذكر والعبادة]

ذكر ابن القيم قراءة آية الكرسي عقب الصلاة، وهو يذكر هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يقوله بعد انصرافه من صلاته، ثم قال رحمه الله: "وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية -قدس الله روحه- أنه قال: ما تركتها عقيب كل صلاة" (٢).

وقال ابن القيم وهو يحدث عن حال شيخه مع ذكر الله تعالى: "وحضرت شيخَ الإسلام ابن تيمية مرَّة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غَدْوتي، ولو لم أتغدَّ هذا الغداء لسقطت قوتي. أو


(١) الوابل الصيب من الكلم الطيب (٤٨).
(٢) زاد المعاد (١/ ٢٩٤).

<<  <   >  >>