تركت لأهلك شيئاً؟» قال: نعم، أكثر ممّا أنفقت وأطيب. قال:«كم؟» قال: ما وعد الله ورسوله من الرزق والخير. وجاء رجل من الأنصار يقال له أبو عقيل رضي الله عنه بصاع من تمر فتصدّق به. وعمد المنافقون حين رأَوا الصدقات يتغامزون، فإذا كنت صدقة الرجل كثيرة تغامزوا به وقالوا: مرائي. وإذا تصدّق رجل بيسير تمر من طاقته قالوا: هذا أحوج إلى ما جاء به. فلما جاء أبو عقيل بصاع من تمر قال: بِتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير على صاعَين، والله ما كان عندي من شيء غيره - وهو يعتذر وهو يستحيي -، فأتيت بأحدهما وتركت الآخر لأهلي. فقال المنافقون: هذا أفقر إلى صاعه من غيره، وهم في ذلك ينتظرون أن يُصيبوا من الصدقات غنيهم وفقيرهم.
فلما أزف خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثروا الإستئذان، وشكَوا الحرّ، وخافوا - زعموا - الفتنة إِن غزَو ويحلفون بالله على الكذب. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لهم لا يدري ما في أنفسهم، وبنى طائفة منهم مسجد النفاق يرصدون به الفاسق أبا عامر - وهو عند هرقل قد لحق به وكنانة بن عبد ياليل، وعلقمة بن عُلاثة العامري - وسورة «براءة» تنزل في ذلك أرسالاً، ونزلت فيها آية ليست فيها رخصة لقاعد. فلما أنزل الله عزّ وجلّ:{انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً}(براءة: ٤١) ، إشتكى الضعيف الناصح لله ولرسوله والمريض والفقير إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا الأمر لا رخصة فيه. وفي المنافقين ذنوب مستورة لم تظهر حتى كان بعد ذلك، وتخلَّف رجال غير مستيقنين ولا ذوي علَّة. ونزلت هذه السورة بالبيان والتفصيل في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبر بنبأ من اتَّبعه حتى بلغ تبوك. فبعث منها علقمة بن مُجَزِّر المُدْلجي رضي الله عنه إلى فلسطين، وبعث خالد بن الوليد إلى دُومة الجندل: فقال: أسرعْ لعلَّك أن تجده خارجاً يتقنَّص، فتأخذه؛