وتوضيحاً لذلك نذكر أنّ بعض الباحثين ذكر من القواعد والضوابط "المتّهم برئ حتى تثبت إدانته" و "الشكّ يفسّر لصالح المتّهم"، و "الأصل براءة المتّهم"، و "الشكّ يفسرّ لمصلحة المدين". وهذه القواعد لم ينص عليها فيما سبق، على ما أعلم، فهي قواعد جديدة، لكنّها استنبطت من أصول قديمة، إذ هي مستندة إلى قاعدتي "الأصل براءة الذمّة" و "الحدود تدرأ بالشبهات"، ولكنّها علم جيّد ومفيد. ومن المؤسف أنّ هذه القواعد لم يستنبطها أو يخرّجها الفقهاء المعاصرون، بل وردت في كتابات رجال القانون. أمّا ما نراه من المؤلفات التي انبرى كاتبوها إلى وضع ما سمّوه القواعد والضوابط في بعض المجالات، فينبغي أن لا نأخذ عناوينها على أنّها فعلاً في القواعد والضوابط، فهي أشبه بالمباحث الفقهيّة العادية، وإن عرضت طائفة من الشروط عرضتها على هيئة تقرير المسائل الفقهية، وقد يرد في بعضها، ما هو على هيئة قاعدة أو ضابط، ولكنّ ذلك قليل ومن أمثال هذه المؤلفات:"ضوابط الدراسات الفقهيّة" لسلمان بن فهد العودة، و "قواعد ومنطلقات في أصول الحوار وردّ الشبهات" للدكتور عبدالله بن ضيف الله الرحيلي، و "قواعد فقهيّة لترشيد الصحوة الإسلامية" لناصر درويش، و "قواعد الاستدلال على مسائل الاعتقاد" لعثمان بن علي حسن، و "الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن" لصالح بن عبدالعزيز آل الشيخ, و "قواعد في التعامل مع العلماء" لعبدالرحمن بن معلاّ اللويحق. وغيرها من المؤلفات التي لم تلتزم بالمعاني الاصطلاحية، عند علماء هذا الموضوع.
٣ـ وفي مجال ترتيب القواعد وتنظيمها نجد جهوداً محدودة في ذلك، مع أنّ هذا أمر جدير بالاهتمام، فجمع القواعد والضوابط، ذات الموضوع الواحد يعطي تصوّراً جيّداً لموضوعها، ويُرسي أسساً قويمة في بحثها ودراستها. وعَرْضُ القواعد والضوابط، بحسب الأبواب الفقهية، الذي نجده في طائفة من كتب التراث، لا يحقّق الهدف الذي نقصده.
وقد تطرّقت بعض الكتب المعاصرة إلى شيء من ذلك، ففي كتاب "نظرية الضمان" للدكتور وهبة الزحيلي نجد المؤلّف عقد فصلاً خاصاً للقواعد الفقهية المتعلقة بالضمان، ذكر فيه عشرين قاعدة فقهيّة شرحها وعلّق على كل واحدة منها على انفراد. ولكنّ مثل هذا العمل محدود، ومنهج الدراسة فيه لم يكن القصد منه تكوين تصوّر كلّي عن الموضوع.
إنّ التوجّه إلى هذا التكوين، وهو ما ندعو إليه، يحقّق هدفين:
الأول: تصوّر الموضوع، منطلقاً فيه من أسسه وقواعده العامّة.
الآخر: المساعدة على التعرّف على الجوانب التي لم تعالجها القواعد الفقهية، مما يفسح المجال لإنشاء قواعد تسدّ مثل هذا النقص، في موضوع الدراسة. ولا يعيق مثل هذا العمل، أنّ بعض القواعد تدخل في إطار موضوعات متعدّدة، إذ لا ضير من إعادة القاعدة، وتكررها، إن كانت ذات تعلّق بالموضوع الخاص.
ومما لا شك فيه أن الحياة المعاصرة، والدراسات العلمية المتنوعة، وذات الاختصاصات المختلفة تدعو لمثل هذا الأمر.
فلماذا لا تكون هناك قواعد تفسيرية، وقواعد في العقود، وقواعد في الأحكام الجنائية، وقواعد في المعاملات، وقواعد في البيّنات والمثبتات والترجيح بينها، وقواعد في الاقتصاد وغير ذلك من المجالات. ولماذا لا توجّه الدراسات في الجامعات، وفي مجال الرسائل العلميّة والأبحاث العلمية، إلى مثل هذا النوع والنشاط، بتنظيم هذه القواعد والربط فيما بينها، وتكوين صورة عن الموضوع بالاستناد إليها. والكشف عن الفجوات المحتاجة إلى أن تملأ بما ينظمّها من الأحكام.
هذه بعض الآراء نطرحها في مجال التأليف في القواعد الفقهية، نسأل الله ـ تعالىـ أن تكون مفيدة، وأن يكون لها وجه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.