الخاتمة: لقد تمهد من خلال الفصول السابقة أن تحكيم الشريعة يرتبط بأصل الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وأن الولاء والبراء لا يعقد إلا على أساس الإيمان بالله ورسوله فمن اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فليس من الله في شيء وأن الحياد بين المؤمنين وخصومهم في هذه المعركة التي ترتبط بأصل دين الإسلام باب من أبواب النفاق والضلال عن سواء السبيل، وأن الشبه التي يقذف بها خصوم الشريعة من العلمانيين وأضرابهم ومن فتن بهم ودار في فلكهم أو هي من بيوت العنكبوت، وأنها لا تصمد أمام مناقشة علمية فهي كبناء من الوهم وحائط من الزور إن تلمسه ينهدم. وإن من بقي على منازعته في تحكيم الشريعة بعد تجلية هذه الحقائق فليراجع أصل إيمانه بالله ورسوله وليعلم أنه بذلك يقذف بنفسه إلى جحيم الدنيا والآخرة. إن أحد التحديات الخطيرة – إن لم يكن أخطرها على الإطلاق – والتي تواجه المسلمين في هذا العصر لهي إسقاط اللافتات الزائفة وفضح الشعارات الملبسة التي تتخفى وراءها العلمانية الكافرة التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة. ولفضح العلمانية ومواجهتها لا بد أولاً أن يصل أمر المواجهة إلى المستوى المطلوب من الحسم والوضوح في نفوس أهل السنة .. فإنه دون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز تجمعات أهل السنة ويعجز علماؤها ومفكروها عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة وتتأرجح أمام التجمعات العلمانية حيث تحسبها تجمعات ليست بكافرة، وبالتالي تفقد تجمعات أهل السنة أهدافها الحقيقية بفقدانها لتحديد نقطة البدء في مواجهة هذه التجمعات العلمانية من حيث تقف فعلاً، لا من حيث تزعم والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع ... بعيدة جداً.
لقد ظلت الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع المهيمن على كل شئون الحياة في بلاد الإسلام طيلة أربعة عشر قرناً إلا بضع سنين، وبغض النظر عن اقتراب أو ابتعاد تلك البلاد من تنفيذ أحكام هذه الشريعة عن الحكم ابتداءً وتحكيم القوانين الوضعية الكافرة لم يحدث سوى في فترة قصيرة جداً في بعض أجزاء البلاد الإسلامية التي سيطر عليها التتار فقدموا فيها الحكم بكتابهم وهو الياسق على الحكم بكتاب الله وكان ذلك محصوراً في التتار ولم يكن تشريعاً عاماً يلزم به كافة المسلمين.
ولم يلبث ذلك الوضع الشاذ أن زال وعادت السيادة للشريعة وحدها، ولم يكن يخطر ببال أحد من علماء المسلمين وعامتهم أن تبتلى الأمة جميعها بمثل ما ابتليت به من سقوط الخلافة العثمانية منذ سبعين عاماً حيث بلغ الانحراف مبلغ الكفر البواح بتبديل الشرع المنزل وجعل الشرع المبدل هو الشرع الحاكم الذي يلزم به الكافة. لذا، لم يكن غريباً أن تفيق الأمة من غفلتها وتفيء إلى كنف شريعتها الربانية لتنبذ هذا الكيان الغريب في جسدها فإذا كانت بعض شعوب الأرض في أوروبا الشرقية ممن لا دين لها قد فاءت إلى هويتها رغم كل محاولات البطش والطمس فليس بغريب أن تفيء أمة الإسلام إلى هويتها لتخلص دينها لربها كما فعلت طوال قرون طويلة منذ إشراقة فجر الإسلام في مكة المكرمة منذ أربعة عشر قرناً.