حاولت في بحثي قدر الممكن دراسة النخب السعودية واعتبرتها المدخل الأصوب لفهم تحولات المجتمع السعودي وما لحقه من تغيرات، ولم أنظر إلى النخب من الداخل فحسب، حتى لا تتحول إلى جسم غريب معزول عن مجتمعه، بل على عكس ذلك سلمت منذ البداية أن (نخب) المجتمع السعودي في طياتها الكثير من سمات مجتمعها، ولم تفلح المكانة الاجتماعية التي يحتلها أعضاء تلك النخب والثقافة التي يحملون في قطعهم عن المجتمع أو عزلهم عنه لثقل المواريث الاجتماعية التي عددتها في كتابي: السعودية السياسي والأيديولوجيا، يضاف إلى ذلك ما طرأ على المجتمع السعودي من تحولات، خصوصاً ابتداء مع (عصر النفط) الذي غير العديد من ملامح المجتمع السعودي دون أن يعيد صياغة عمقه على نحو آخر، أدى إلى تداخل الأمور وتشوه البنى. فمع (المدنية) و (الحداثة) ما زالت النزعات الإقليمية والثنائيات القديمة، خصوصاً ثنائية بدو وحضر، وحسب ونسب، وقبيلة ومدينة، تحدد سلوك الناس. وكان الأمر يهون لو لم تتسرب هذه التصرفات إلى النخب التي لم تكتف بالانسياق إليها، بل هي معنية في إذكائها وتبريرها، خصوصاً وهي تملك الزاد العلمي والمكانة الاجتماعية، وذلك ما يجعلها ذات (إقناع ونفوذ).
لقد اخترت (النخبة) مقولة تفسيرية لاعتقادي الراسخ بأن المجتمع السعودي لخصوصياته العديدة: ثقل مواريثه و (صدمة النفط)، لم يشهد فرزاً طبقياً حقيقياً لغياب الصراع الطبقي أو وعيه، ولا أيضاً شهد حركات اجتماعية كالحركة العمالية أو الشبابية أو النسائية، وذلك ما منعني من استعمال مفاهيم أخرى كالطبقة أو الحركة الاجتماعية مثلاً، أو غيرها من المفاهيم التي لا تنطبق علمياً على ما يعيشه المجتمع السعودي.
لكن هذه الاعتراضات العلمية التي أعتقدها وجيهة، صرفت النظر عن استعمال بعض تلك المقولات التفسيرية وتشبثت بالنخب، وقد أشرت في معرض بحثي أنني لا أنظر إليها باعتبارها الفئة الأفضل سلوكاً أو الأكفأ والأجدر، بل باعتبارها التي تمكنت لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية من تحصيل زاد علمي ومعرفي مهم، أو تمرس بيروقراطي في أعلى مراتب الوظيفة الحكومية، مكنها عادة مع اعتبار بعض الظروف الأخرى التي عددتها من تسلق السلم الاجتماعي وتبوؤ مكانة عليا في الحراك الاجتماعي الصاعد، خصوصاً الذي يتأتى بواسطة الانضمام إلى النخب.
إن (النهضة) التعليمية التي شهدتها المملكة العربية السعودية والتي مولتها (السيولة النفطية) – وربما كانت نتيجة لها – فتحت المجال لتشكل نخباً (حديثة) لم يسبق للمجتمع السعودي أن عرفها. وقد اصطفت هذه النخب جنباً إلى جنب مع نخبه التقليدية، وخصوصاً النخبة المشايخية، فالأفواج العديدة التي ابتعثتها المملكة إلى الخارج لمواصلة التعليم العالي – وربما أكثر من أي دولة عربية أخرى – لم تضخ دماء جديدة في المجتمع السعودي على رغم وجودها في جميع القطاعات والمجالات. وذلك ما دفعني إلى محاولة معرفة الأسباب التي عزوتها في النهاية إلى وطأة المواريث الاجتماعية التي تميز الجزيرة العربية، وما فعله النفط من تشويه وتزييف اجتاح حتى ضمائر الناس وقيمهم.
فالنخب السعودية ظلت مرتهنة إلى حد ما إلى مواريثها، مما جعلها تحمل العديد من خصائصه وسماته. ولم يستطع التعليم على أهميته تغيير (العقليات) التي ظلت أيضاً مشدودة إلى تلك الثنائية التي تحكمت، لا في تاريخ الجزيرة العربية فحسب، بل في تاريخ العرب قاطبة. إنها ثنائية: بدو/ حضر، كما ذكرت في أكثر من مناسبة.