اعتاد الباحثون أن يختموا بحوثهم بأهم النتائج التي توصلوا إليها من خلال رحلتهم مع البحث، ويقدموا توصياتهم ومقترحاتهم بشأنه، ولما كان بحثنا هذا – رغم الاختصار فيه والحذف الكثير فيه – لا يخلو من طول بحكم طبيعته، فإنه من الصعب بمكان أن أذكر نتائجه كلها، فذلك مما يزيده طولا وسعة، وعليه: فإني سأكتفي بذكر بعض الأمور العامة التي قدحت في ذهني من خلال رحلتي الطويلة مع هذا البحث.
أولاً: إن مثل هذا الموضوع - أعني: البحث في العلة وأحكامها - من أهم الموضوعات في أصول الفقه، بل يكاد يكون أهمها إذا ما لا حظنا أن بالعلة يفهم الحكم الذي دل عليه النص أو الإجماع، وليس في قولي هذا افتيات على النص، بل إنه سند له، ما دام فهم العلة مخرجا من مخارج الحكم فيه، فمن مقتضى الاهتمام بالنص الاهتمام بالعلة وأحكامها، وما من مجتهد أو فقيه إلا ويكون التعمق في هذا البحث له من أهم متطلبات أمره في الاجتهاد واستنباط الأحكام ومن هنا أجد أن ما عليه الباحثون المحدثون الآن لم يوف حق هذا الركن من أركان القياس، فلم أجد منهم إلا المرور عليه مر الكرام، وخاصة فيما يتعلق بالأمور العقلية منه، بل إني وجدت الكثيرين يهربون منها أو يتجاهلونها، ومن هنا أقدم اقتراحي لهم وأستحثهم في أن يجعلوا من هذا الركن موضوعات عديدة لهم في بحوثهم لدراستها دراسة عميقة، وتبسيط ما أغفله الأقدمون بعباراتهم الشديدة الصعبة، حتى يكون في متناول كل باحث ممن لم يصل إلى درجة عالية من الإدراك والفهم، ويستفيد منه كل طالب علم شرعي، حتى لو كان في أول السلم.
ثانياً: ومن خلال بحثي وجدت أن أصول الفقه توأم لعلم العربية، فإذا ما نظرنا إلى ألفاظ التعليل وما ذكره الأصوليون فيها مما عرفوه من قواعد اللغة العربية، نجد أنه لا سبيل للباحث في هذا العلم إلا أن يلم بعلم العربية، حتى يكون على قدم راسخة وقاعدة صلبة يرتكز عليها بحثه، وبدون ذلك فإنه من المستحيل أن يصل إلى نتيجة سليمة فيما يذهب إليه، ومن لا عربية له لا أصول له.
ثالثا: هناك أمر مهم أحببت التنبيه عليه، ذلك أني وجدت كثيرا من الأصوليين يستشهدون بالأحاديث النبوية الشريفة، وفي كثير من الأحيان يكون موطن الشاهد في الحديث يتعلق بلفظه، ولدى المتابعة والبحث نجد أنهم إما اتبعوا في ذلك رواية ضعيفة، أو رواية بالمعنى، وكل هذا يفسد الاستشهاد به، لأنه يخرجه عن أن يكون معتمدا في الاستدلال ما دام أن موطن الشاهد يتعلق بلفظ مخصوص من الحديث، ومن هنا حاولت جهدي أن أتلمس لفظ الحديث وروايته الصحيحة، ليتم الاستدلال به بوجه صحيح.
رابعا: كما يلاحظ في أكثر من موضع أن الأصوليين قد يذكرون المثال على القاعدة، مع أنه ربما كان الحكم ثابتا بخلاف مدعاهم في ذلك المنال، وما كان إيرادهم له إلا لمجرد توضيح القاعدة أو الأصل الذي ذهبوا إليه، وهذا ما يطلقون عليه:(المثال التقديري) أو (الافتراضي) فمثلاً: تعليل حرمة الخمر بكونه مسكرا، يذكر في أماكن عديدة للاستشهاد بها على ثبوت الحكم بكل مسكر بالاستنباط، وليس الأمر كذلك، فإن حرمة المسكر إنما ثبتت بالنص – كما رأينا – في أكثر من موضع.