للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرخص الفقهية من القرآن والسنة النبوية]

المؤلف/ المشرف:محمد الشريف الرحموني

المحقق/ المترجم:بدون

الناشر:مؤسسات عبدالكريم بن عبدالله - تونس ̈الثانية

سنة الطبع:١٩٩٢م

تصنيف رئيس:أصول فقه

تصنيف فرعي:قواعد فقهية وأصولية

الخاتمة

آن لنا – في خاتمة هذه الرسالة – أن ننبه جميع المكلفين: من مستفتين ومفتين إلى بعض المسائل الهامة التي خرجت بها بعد مسيرة طويلة قضيتها مع رخص الشرع وتخفيفاته، مقارنة بعزائمه وحتمياته. أريد أن أقول لهم جميعا:

أولا: إن الرخص الفقهية – على تضافر أدلتها، وعلى ما صح من حث المشرع عليها، وترغيبه في الأخذ بها، وعلى ما بذل في تقعيد قواعدها، وضبط جزئياتها وعلى ما تم ذكره من قيام أسبابها، وتوفر شروطها، وانتفاء موانعها. وحد حدودها، وتعيين مجالاتها – أنها رغم كل الاحتياطات والتحريات التي تتخذ قبل تطبيقها تبقى – مع ذلك – إضافية أي أن كل أحد من المكلفين فقيه نفسه في الأخذ بها أو في عدمه.

ولزيادة توضيح هذه المسألة يمكن التذكير بأن المشقة – مثلا – التي تعتبر سببا هاما من أسباب الرخص تختلف قوة وضعفا، وتزداد شدة وخفة بحسب أحوال المسافرين، وأزمنة السفر، ومدته، ووسائله، وبحسب طبيعة الأعمال، ودرجة التصميم في العزائم، وما إلى هذا مما يتعذر ضبطه واطراده في جميع الناس، الأمر الذي جعل المشرع الحكيم يعدل عن إناطة الحكم بذات المشقة وبسنده إلى أمر آخر مما يدل غالبا عليها كما هو الحال في السفر، فقد أنيط به الحكم لأنه أقرب مظان حصولها.

وقد ترك أمر المكلفين – مع ذلك – في أكثر الحالات موكولا إلى الاجتهاد الشخصي والفقه النفسي: فرب مريض يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر فتكون الرخصة مشروعة لأحد المريضين دون صاحبه، ورب مضطر قد اعتاد الصبر على الجوع والخصاصة فلا تختل مداركه بفقد الطعام بل تلحقه المشقة فقط، في حين تختل بفقده حال غيره فهذا يجب عليه الترخص والأول يكون مخيرا فيه إذا خلا عن المرجح.

ورُبّ عامل حمله التحمس للعمل حتى خف عليه ما ثقل على غيره من الناس. وحسبك من ذلك ما يروى من أخبار أهل العبادات الذين صابروا الشدائد وتحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم فخفت عليهم أنواع ثقلت على من كانوا دونهم، بل كانت – بالنسبة لهؤلاء – عذابا شديدا وألما أليما حسب تعبير الإمام الشاطبي. ولا غرابة في ذلك فإن القلوب إذا امتلأت بالإيمان نشطت للعبادة أعضاء الأبدان وجوارحها. أضف إلى ذلك أن بعض الناس يقطعون المسافات العظيمة يوميا: كالموزعين والموردين وأصحاب البريد قديما، فلا يترخصون – وليس لهم أن يترخصوا – وبعضهم يسافرون مرة في حياتهم أو مرتين مسافة دونهم فيترخصون – ويكون لهم ذلك – لأن طبيعة عمل أولئك أخرجتهم عن حد السفر إلى حد العادة بالنسبة إليهم بخلاف غيرهم.

ثانيا: إن تتبع رخص المذاهب والجري وراءها والتحيل لدخول منطقتها دون سبب وجيه يعتبر هروبا من التكاليف وتخلصا من المسؤولية وهدما لعزائم الأوامر والنواهي وجحودا لحق الله تعالى في العبادة وهضما لحقوق عباده، وهو يتنافى مع مقصد الشارع من شرع التخفيف عموما والرخص بصفة خاصة، ولا يكون ذلك إلا من جبان هان عليه دينه فضعفت عزيمته.

وقد عبر العلماء عن هذا العمل بأنه فسق لا يحل. وحكى ابن حزم الإجماع على اعتباره كذلك وقال – نقلا عن غيره -: لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.

<<  <  ج: ص:  >  >>