للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونقلوا عن الإمام أحمد أنه قال: لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقا. كما نقلوا عن إسماعيل القاضي أنه قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتابا لأنظر فيه وقد جمع فيه صاحبه الرخص من زلل العلماء وما احتج له كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.

مع ملاحظة أن هذه النقول لا تعني منع العامي الذي التزم بتقليد مذهب معين أن يأخذ بمذهب غيره في مسألة ما، خاصة إذا توفرت شروط مبسوطة في كتب الأصول.

ثالثا: إن الرخص أحكام الله تعالى شرعها لعباده في حالات خاصة وهي من الدقة والخفاء ما قد علمنا، ولذلك تعين على المجتهدين أن يتحروا في الفتوى بها غاية التحري، وأن لا يراعوا من أحوال المستفتين سوى ما يساعدهم على الاهتداء إلى حكم المولى تبارك وتعالى، الذي يتلاءم مع أعذارهم ويتماشى مع أحوالهم، ولا حرج عليهم إذا اختلفت فتواهم في النازلة الواحدة باختلاف الأشخاص، فإنما شأنهم في هذا الأمر شأن الطبيب الحاذق مع مرضاه: يتعرف بدقة على أحوالهم ظاهرا وباطنا ويوظف ذلك في وصف العلاج لهم، وكثيرا ما تختلف وصفاته للمرض الواحد باختلافهم. لكن الحرج الذي لا يحتمل والمكروه الذي لا يبيحه الشرع هو أن يفتي هذا المفتي أو ذاك بما يشتهي أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة بينهما، أو قرابة تشدهما أو وجاهة تستقطب أحدهما دون الآخر، ناسيا أو متناسيا أن المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، وأنه لا يجوز لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه.

يقول الشاطبي – في هذا المعنى – وقد صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال اتباعا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب أو ذلك الصديق.

وقال القرافي: لا ينبغي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف فذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين وهو دليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب للخلق دون الخالق فنعوذ بالله من صفات الغافلين. الذين أخرجوا الأمر – بتصرفهم الأخرق – عن كونه قانونا شرعيا وجعلوه متجرا ومكسبا حتى كتب بعض المؤلفين من المتطفلين على الفقه ما نصه: (نحن مع الدراهم كثرة وقلة.)

ثم يعود الشاطبي إلى القول: بأن هذا الأمر وجد في الأزمنة الماضية فضلا عن زماننا ويدعم رأيه بنماذج من الأقوال والأفعال التي حوتها خزائن الكتب في مختلف الأغراض: فهذا البهلول بن راشد يقول – لعبد الرحيم بن أشرس حين جاء يطلب الرخصة في نازلة نزلت به -: يا ابن أشرس ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نوازلهم قلتم: قال مالك، قال مالك فإذا نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص.

وذاك الإمام الباجي يتحدث عن بعض الفقهاء ممن عاصروه فيفيدنا بأن أحد المقربين إليهم اكترى جزءا من أرض على الشياع ثم أن رجلا آخر اكترى باقي الأرض فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة ولكنه غاب عن البلد قبل أن يطالب بحقه فيها، فأُفتي المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن لا شفعة في الإجارات فلما عاد الأول من سفره سأل أولئك الفقهاء عن مسألته فقالوا: ما علمنا أنها لك، وإلا أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها، وفعلا تم له الحكم على هذا الأساس.

أما القاضي عياض فإنه ينقل إلينا بأمانة ما قاله محمد بن يحيى لزملائه من القضاة والمفتين لما امتنعوا من إفتاء أمير المؤمنين الناصر لدين الله في مسألة الوقف بغير مذهب مالك، وذكر أنه قال لهم – مبالغة في إحراجهم وتقربا من الخليفة -: ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحدكم مسألة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم، وأرخصتم لأنفسكم في ذلك؟ قالوا: بلى. قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك فخذوا به مآخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة.

ولعل القارئ الكريم يشاطرني الرأي بأن هذه الفتاوى المنتقدة لو جانبت الهوى وتعرت عن الأطماع والمحاباة لكانت مقبولة شرعا بل ربما عدت محققة لمقاصد الشارع في التخفيف والرحمة وإخراج المكلفين من الضيق.

أما حين نقرأ رأي قاضي القضاة أبي عمر: محمد بن يوسف المتوفى سنة ٣٢٠هـ في التداوي من الخمار فلا يسعك إلا أن تقول مع من قال – إن صح الخبر – إنه مجون مرذول لا يصدر إلا عن الفساق والمستهترين.

ولله الأمر من قبل ومن بعد {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} صدق الله العظيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>