الإسلام عقيدةً انبثق منها نظام، فهو فكرٌ شاملٌ للكون والإنسان والحياة وما قبل الحياة وما بعدها –نظم علاقة الفرد بربه وبنفسه وبمجتمعه فتاريخه يعتمد الفكر أساساً- وتاريخ المسلمين لا يفسر إلا من المنطلق الفكري، ومن هنا اعتمدت في تفسيري للحوادث التاريخية في هذا البحث –التفسير الفكري- ولا يخفى أن التفسير الفكري لا يهمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية بل هي نتائج للناحية الفكرية في الإسلام. ومن هذا المنطلق أيضاً جاء دور القوى المناهضة للإسلام وأثرها، إذ لجأت إلى سلاح الفكر تقف في وجه الدعوة الإسلامية وتسلل أفكارها خلال أفكار الإسلام، فكان تصنيف الناس في المجتمع الإسلامي بعيداً عن الطبقية الاقتصادية والنسبية بل كان التصنيف فكرياً ودينياً يعتمد الفكر الديني أساساً وهو أرقى أنواع التصنيف البشري. فاتحدت جميع القوى الفكرية لمواجهة الإسلام؛ لأنها اعتبرته مهدداً لها جميعاً بنظرته الإنسانية العالمية حيث تمكن أن ينشئ بناءً اجتماعياً راسخاً متجانساً تمكن به أن يتغلب على الفروق الجنسية والقومية، وهو لم يدع إلى المساواة قولاً فحسب ولكنه يدعو إليها عملياً كل يوم خمس مرات وذلك في الصلاة التي تنمحي فيها الفوارق المادية المصطنعة إذ يقف المسلمون جميعاً جنباً إلى جنب دون تمييز بين حسيب أو وضيع –غني أو فقير- وهذا هو المنهج الاجتماعي السليم والدعوة الحضارية الراقية. فوقف الحاقدون من أهل الكتاب حسداً منهم على هذا النظام الاجتماعي بتياراتهم الفكرية المختلفة جنباً إلى جنب مع الأفكار الشرقية –المزدكية والمانوية والزردشتية- ومع الأفكار الغربية الفلسفية والهلنستية ...
وقد حاولت أن أعي أفكار القرن الأول الهجري وما قبله والثلث الأول من القرن الثاني الهجري ورغم صعوبة ذلك لكثرة التيارات الفكرية وتداخلها من جهة، ولاتساع الساحة الإسلامية من جهةٍ أخرى إلا أنني خرجت من البحث بنتائج قد تكون صحيحة كل الصحة لا نزال نلمس آثارها إلى اليوم.
ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تسلل أهل الكتاب بين مختلف القوى والفرقاء يكيدون ويخططون وبالاتفاق معها أو يسيرونها للوقوف في وجه الدعوة الإسلامية وفي وجه حكومة الإسلام النبوية –فكان تعاونهم مع القبائل العربية المختلفة وقريش ومع المنافقين- يحزبون الأحزاب، ويثيرون التناقضات داخل المجتمع الإسلامي الوليد بين الأوس والخزرج من الأنصار من جهة وبين الأنصار والمهاجرين من جهةٍ أخرى. ويضعون الخطط للقضاء على هذا المنافس الخطير في الحجاز في جزيرة العرب، بل وأدركوا خطر منافسته على النطاق العالمين فأخذوا يكيدونه على المستوى العالمي فتعاونوا مع دولة الفرس والروم والحبشة في عهد مبكر من عهود الدولة الإسلامية إدراكاً منهم بطبيعة المد الإسلامي وبأنه لا يعترف بفواصل أو حدود وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أُرسِل إلى الناس كافة ينتظم في دعوة العربي وغير العربي، وفي دولته المسلم وغير المسلم.
وفي عهد الخلفاء الراشدين ظهر أثر أهل الكتاب في حركة الردَّة التي كانت تعبيراً عن انتفاضة أهل الكتاب ليعيدوا الجزيرة إلى ما كانت عليه قبل الإسلام ليتسلموا زعامتها ويسيطروا على مقدرات سكانها –ولتبقى سوقاً ومسرحاً يمثلون عليه ما شاءوا! وميداناً لنِزاعهم السلمي بعد أن تحولت الأخطار الأخرى إلى مسرح لنِزاعهم الدامي!.