المرابحة الثنائية البسيطة التي أجازها جمهور الفقهاء لا تتماثل مع المرابحة الثلاثية للأمر بالشراء التي تمارس حاليا في المصارف الإسلامية، ومن ثم لا ينسحب عليها تلقائيا حكم الجواز بسبب ما يسبقها من مواعدة، فهي عند الشافعية لا تجوز إلا إذا كان وعدها غير ملزم، فإن ألزم به تحول البيع والوعد معاً إلى بيع مفسوخ، وهي عند المالكية – وهم الأكثر تقبلا لإلزام الوعد عموما – إما مكروهة أو محظورة، ومن ثم لا مجال عندهم للإلزام بمكروه أو محظور، أما إذا انتفت العلاقة بين المواعدة والمرابحة فهي جائزة. وبالنسبة للحنفية والحنابلة فقد أثر عن بعض علمائهم حيلة شرعية بشأنها لتفادي مضار نكول العميل فلم يفتوا بإلزام وعدها.
بيد أن بعض العلماء المعاصرين طالعونا بفتوى تلفيقية تجيز المرابحة ذات المواعدة اعتمادا على الجزء الأول من رأي الشافعي مع بتر الجزء الثاني الذي يجعلها بيعا مفسوخا إذا اقترنت بمواعدة ملزمة، ثم أجازوا إلزام هذه المواعدة اعتمادا على بعض آراء المالكية في لزوم الوعد. وفضلا عن ما في هذا المنحى من مخالفة صريحة لنصوص حديثية وللرأي الراجح، فإن استنباط الحكم على هذا النحو يخالف منطق القياس؛ فالمسألة المفتى بشأنها هي مدى إلزام وعد المرابحة قضاء، وليست أي إلزام بأي وعد، وطالما أن الإلزام بالوعد في ذاته – حتى عند القائلين به – ليس مطلقا (لاستثناء ما أحل حراما وحرم حلالا) فإن وعد المرابحة قد يكون داخلا في هذا الاستثناء، وهذا ما رآه فعلا أئمة الفقه الذين تناولوا هذا الموضوع.
إن حجة هؤلاء الذين أفتوا بالمرجوح وتركوا الراجح كانت التيسير أو ما تصوروه مصلحة، ولذلك انصب هذا البحث على دراسة الآثار الاقتصادية والاجتماعية للمرابحة الملزمة، فتبين منها أن علة الفتوى انطوت في الواقع على محاباة للمصلحة الضيقة للمصرف على حساب مصلحة مجموع العملاء والاقتصاد القومي، أي أنها غلبت جانبا من المصلحة الخاصة على كل المصلحة العامة؛ إذ أفرغ الإلزام بيع المرابحة من محتواه الاقتصادي، فخلا من معظم المهم الإنتاجية للتجارة الحقيقية، وصار في التطبيق عملا مكتبيا لوساطة مالية لا تختلف في بعدها الاقتصادي عن الإقراض الربوي، وبذلك حرم المجتمع والعملاء من الدور الاقتصادي الذي تنطوي عليه المرابحة الحقيقية، وألقى بكل الأعباء والمسؤوليات والمخاطر على العميل وحده.
وأكثر من ذلك أن السهولة التي أضفاها الإلزام على صفقات المرابحة شكلت إغراء انحرف بالمصرف عن مساره الأصلي ودوره الأساسي؛ إذ مكنته من جني كل مغانم التجارة دون التعرض لمغارمها، فلاذ بالمرابحة فرارا من أعباء الاستثمار المباشر والمشاركات والمضاربات والاستصناع والتأجير التمويلي وغيرها من صيغ الاستثمار الإسلامية، على الرغم من أنها أكثر من المرابحة قدرة على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعلى الرغم من أنها تمثل المهام الأساسية للمصرف الإسلامي، ليس أدل على ذلك من أن نصيب المرابحة من إجمالي استثمارات المصارف التي أخذت بإلزام وعدها وصل إلى ٩٧.٨% في بعض هذه المصارف، ولم يقل عن ٧٥% في بقيتها.