تلخص لدى الباحث أن موضوع المصالحات في جملته قضية كلية استهدف الإسلام تحقيقها عبر جملة من التشريعات في نواح مختلفة اجتماعية وسياسية، كما أنه يمكن أن تعتبر هذه القضية الجامعة وسيلة لتحقيق وإنفاذ وتوطين الأمن والسلام في المجتمع. وهذه الغاية الغالية، والتي أصبحت هاجس البشرية الأول في عالمنا المعاصر، عولجت في الشريعة كغيرها من القضايا كأحسن ما يكون؛ فقد ركزت تشريعات الإسلام في هذه المسألة على خصوص الإنسان كفرد بأن استثارت فيه كوامن الرحمة والإلف المفطور عليهما أصلاً. وفي الجملة حسم الله القضية عندما أوضح بأن من رغب في تحقيق السلام وبناء الأمن الحقيقي في المجتمع لا عليه سوى الانقياد لهدى الله؛ فقال سبحانه وتعالى:{والسلام على من اتبع الهدى}[طه: ٤٧]، وفسر إجمال هذه الآية في آخر السورة نفسها بقوله:{فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً}[طه: ١٢٣ - ١٢٤]. ويتربع في قمة هذا الهدى الإلهي في هذا الصدد قضية تجريد وتحقيق وتعميق التوحيد والإيمان في النفوس، كيف وقد قال عز وجل حكاية عن خليله إبراهيم:{وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون}[الأنعام: ٨١]، وقال سبحانه وتعالى:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}[النور: ٥٥].
ولئن كان تحقيق توحيد الله في النفوس مجلبة للأمن فإن الشرك بالله تعالى يظل بأنواعه مصدراً حقيقياً للقلق والرعب وانعدام الأمن في النفوس والمجتمعات على حد سواء، وقد سطرت هذه الحقيقة بأوضح بيان في كتاب الله تعالى؛ إذ قال:{سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً}[آل عمران: ١٥١]، وقال:{وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة}[الأنبياء: ١١].
فمهما حاولت البشرية أن تخط لنفسها طريقاً غير هذا في تطلب السلام أو البحث عن الأمن، عبر مواثيق أو سياسات أو برامج تغفل عن هذه الحقيقة فضلاً عن مراغمتها، فلن تحصد إلا الشقاء.
والناس في عرف الشرع قسمان:
١ - مسلمون يرتبطون برباط وآصرة العقيدة التي تهون دونها روابط الدم والرحم أو القومية والوطنية؛ إذ لا يجد المسلمون مهما تباعدت أجناسهم أو أوطانهم بديلاً سوى هذا الوصف الذي يوفر لهم رحماً جديداً {إنما المؤمنون إخوة}[الحجرات: ١٠]، و (المسلم أخو المسلم).
٢ - والمسلمون يقابلهم الكفار، والذين هم قبائل شتى؛ منهم المسالمون لمعسكر المؤمنين، ومنهم المحاربون لهم. وهذه التقسيمات تقسيمات شرعية نابعة من القرآن والسنة، وأهميتها تنبع من كونها تشكل لنا معايير محددة وثابتة لا تقبل التلاعب في وزن الأشخاص والأحداث.
والمصالحات والعهود مشروعة في الجملة، وهي من السياسة الشرعية على الصعيد السياسي، وقد دلت على هذه المشروعية نصوص الكتاب التي منها قوله تعالى:{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم}[الأنفال: ٦١]. كما ساس الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العملية أعداءه بهذه السياسة في مختلف مراحل الدعوة، وهذا هو المنهج الصحيح في هذه القضية.