إلا أن مشروعية المصالحات السياسية تظل محكومة في نفاذها بشروط من أهمها: رعاية المصلحة العامة جلباً للمصلحة أو دفعاً للمفسدة عن الأمة، وكذا أن لا تكون متضمنة لمحظور شرعي؛ تحريماً لحلال أو استباحة لحرام متفق على حرمته، ومتى تضمنت المصالحة شيئاً من ذلك كانت ممنوعة وغير جائزة في الفقه الإسلامي. ومتى صحت المصالحة ظلت نافذة ولزم الوفاء بها وجوباً، وحرم نقضها بالغدر؛ الأمر الذي منعت منه الشريعة إجماعاً، هذا ما لم تختل المصالحة في جوهرها فيكون لأي من الطرفين أو الأطراف حينئذ المندوحة في التفصي من التزاماته حيال ذلك الاتفاق.
ما سبقت الإشارة إليه هي المصالحات التي تتم على الصعيد السياسي بين الدولة المسلمة وغيرها من الأمم، أما المصالحات التي تتم بين أفراد المسلمين إصلاحاً للشأن الاجتماعي إذا اختل بالخلافات؛ كالأزمات التي تحصل بين المسلمين في الدماء أو الأموال، أو الشأن السياسي إذا تنازع فيه الفرقاء، فهذا النوع من المصالحات يظل دائماً محل تأكيد للمشروعية التي تترد في الحكم بين الوجوب والاستحباب.
وللمصالحات والعهود آثار جليلة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي؛ لأن المصالحات في حقيقتها آلية لصنع الاستقرار فيهما، كما برهن على صحة هذه الفرضية ميثاق المدينة الذي أكد في نصوصه على الحقيقة السابقة؛ إذ نص على وحدة الأمة، والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع مهما تخالفت عقائدهم، وغير ذلك من القيم.
تعتبر البيعة عهداً سياسياً خاصاً تنتظم به علاقة الراعي المسلم برعيته، وترتب عليه حقوق وواجبات شرعية متبادلة بينهما لتأخذ العلاقة والممارسة السياسية بعداً إيمانياً يستشعر به الطرفان حجم التبعة الملقاة عليهما، وإن فرص نجاحات التطبيق الأمثل لهذا الأسلوب تتطلب مجتمعاً يتوافر فيه الوعي والرشد والإدراك الحقيقي لمقاصد الدين.
والإمام أو الأمير المبايع بصورة صحيحة تظل طاعته واجبة ولازمة إمضاءً للنصوص الكثيرة الآمرة بذلك؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتة جاهلية)، ومع هذا فإن الصحيح الذي ترجح لدى الباحث من أقوال العلماء صحة خلع الإمام إذا جار جوراً ظاهراً اختلت معه مهمات إقامة الإمارة، بشرط تمام القدرة على القيام بهذا الأمر، وإلا تعين الصبر تلافياً لمأساة الهرج وسفك الدماء.
ويعتبر عهد الأمان من العهود الخاصة، ويعني بسط الحماية على الكافر الحربي في حالة ووضع خاص، فيظل آمنا في دمه وماله حتى يبلغ أجله الزماني والمكاني، فلا يجوز التعرض له بانتهاك شيء من ذلك ما لم ترتفع حصانته بسبب اقتراف جريمة تستبيح منه الدم أو المال.
أما عهد الذمة فهو عهد ينظم شأن الجماعات غير المسلمة في مجتمع المسلمين، وهو عقد ثابت بنص الكتاب والسنة، وجرى به العمل إلى أزمان قريبة، وليس فيه أي إجحاف بأي من حقوق هؤلاء الأساسية؛ إذ يتمتعون بكل ذلك على قدم المساواة مع غيرهم، والتشريع الإسلامي إذ يقر بهذه المساواة ويؤكدها فيما يتعلق بالجميع إلا أنه، ولأسباب موضوعية، يقبل استثناءات ترد على هذه القاعدة يفرق فيها بين المسلم وغير المسلم.