غير أن الحركة العلمانية البائسة التي انتظمت العالم الإسلامي عقب سقوط الخلافة قلبت هذه الوضع الصحيح في بلاد المسلمين رأسا على عقب لتستبدل صيغة الذمة بصيغة المواطنة، وللأسف ضمنت هذه النكسة في دساتير الدولة المسلمة، فاتسع الخرق على الراقع. كان الاجتهاد عند التعامل مع هذا الوضع تسويق هذه الحالة الشاذة في ظروف الاستضعاف ليكون خيار المواطنة خيار حاجة واضطرار، على أن يستأنف المسلمون الوضع الصحيح متى واتتهم الفرصة؛ ذلك لإصالة هذا الحكم الشرعي الذي لم يوجد أي دليل أو تأويل سائغ يرقى إلى التمعن فيه لأجل القول بنسخه أو انتهاء مفعوله، كما زعم بعض الكتاب المعاصرين حيال هذه القضية.
والمصالحات تأتي بمعنى الهدنة مع الكفار بوضع الحرب، كما تعني أيضا إقامة الأحلاف معهم، وكل ذلك جائز في السياسة الشرعية على التفصيل المذكور؛ طالما تتحقق بموجبه المصلحة العليا للمسلمين.
إن تحالف بعض المسلمين مع بعض الكفار إذا جاز وصح لدفع مفسدة عظمى تحدق بالجميع من قبل كفار آخرين إعمالاً لمبدأ دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فإن الذي لا يجوز هو أن تمتد آثار هذا التحالف مع الكفار إلى درجة الاستعانة بهم في قتال مسلمين آخرين ولو كانوا بغاة، وإلا كان الحلف مع الكفار عندئذ تمكيناً لهم من رقاب المؤمنين؛ الأمر الذي منعت منه الشريعة الإسلامية قطعاً لمناقضته لمبادئ الإسلام نفسه.
إن مبدأ المصالحات لم يكن عند المسلمين قضية تجريدية بعيدة عن واقع الممارسة، بل تجلت نماذج عملية نيرة إعمالاً لهذا المبدأ وترجمة واقعية له، ومن ذلك: مصالحات النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين في زمانه فيما عرف بصلح الحديبية؛ تلك المصالحة المباركة التي أفضت وانتهت بأعظم فتح في الإسلام. كما أنه عليه الصلاة والسلام صالح اليهود بالمدينة، والذين انتهزوا – كعادتهم – ذلك الوضع في ممالأة الأعداء، فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بدا من حسمهم وإجلائهم جزاء وفاقاً.
والعبرة التي تؤخذ من هذه التصرفات النبوية هي مشروعية وجواز أن تتكرر مثل هذه المصالحات مع أن جنس من الأعداء ولو كانوا يهوداً غاصبين، هذا ما يستفاد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم الكريم في هذا الصدد، إلا أن ترجيح هذا الرأي والمذهب على غيره لا يعني بالضرورة إيجابه على الناس بوصفه الخيار (الاستراتيجي) الأوحد، أو الرضا وإضفاء المشروعية على مصالحة بعينها في زمان ما.
والنماذج العملية للمصالحات تتواتر في فترة الخلافة الراشدة؛ حيث ورد التمثيل بصلحين صلح بهما الشأن السياسي للدولة المسلمة آنذاك، وهما: صلح سقيفة بني ساعدة، وصلح عام الجماعة اللذان تم الأول منهما في بواكير العهد الراشدي، والآخر في منتهاه، ومثَّلا نموذج في كيفية معالجة الخلاف السياسي عندما يتأزم؛ ذلك لأنه بهذا الصلح التأم الشمل بعد أن كاد العقد أن ينفرط، فثبت أن مسلك المصالحة – أيا كانت – هو المسلك الأرشد الذي يتعين سلوكه في السياسية الشرعية لمعالجة الأزمات السياسية كما الاجتماعية، دون اعتماد ضلالة المعارضة كما شاع في الفقه السياسي الوضعي المعاصر.