فقد تبين لنا أن الغالبية العظمى من دساتير البلدان العربية والإسلامية تعتمد على أن السيادة للشعب، وهو يعنى نظرياً إناطة التشريع في أمور المجتمع بالشعب، وعملياً إناطة ذلك بمن يكون داخلاً في البرلمان ممن يعدونهم ممثلين له ومتحدثين باسمه، وهو في الوقت نفسه تنحية لشرع الله- تعالى – عن أن يكون حكماً في هذا الجانب إلا ما وافق عليه النواب وأقروه منه، وهذه المسألة تعد عقبة كأداء لا يمكن تجاوزها في إباحة الدخول والمشاركة في هذه المجالس لما يترتب على ذلك من الإقرار بحق الشعب فيما ليس له ولا لغيره فيه حق، وهو في الوقت نفسه عدوان على الشرع المحكم، لاسيما أن الداخل يجب عليه أن يقسم بالله العظيم على احترام ذلك الوضع والوفاء له.
وقد ذكر المجيزون لذلك عدة أدلة في مشروعية المشاركة وهي ليست في الحقيقة دالة على ما يريدون، وما ذكروه من المصالح التي يمكن تحقيقها من خلال المشاركة فأكثرها مصالح غير قابلة للتحقيق، على أن ما هو قابل للتحقيق منها لا يقاوم المفسدة العظمى المتمثلة في إظهار الموافقة على هذا الوضع والتمسك به والعمل من خلاله، ومن هنا يتبين أنه لا يجوز للإسلاميين أن يعتمدوا هذا الطريق للوصول إلى إقامة دين الله أو العمل على تخفيف الشرور والمفاسد ولا يخففها، بل عليهم الدعوة إلى إقامة دين الله –تعالى- كله كما أنزله الله –تعالى – على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بشموله وعمومه وكماله وليس اختزاله في جزء من أجزائه والدعوة إليه، وأن يتحملوا ما يصيبهم من أذى المناوئين وخذلان الخاذلين حتى يتمكنوا من إقامة دعائم بنيان قوي وأساس متين يمكن أن تؤسس عليه إقامة الدولة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم قد يطول زمن هذا التأسيس مع ما فيه من المشقة واللأواء وعدم الناصر وضعف الإمكانات وقلة المعين، لكنه في النهاية طريق موصل للمقصود-بإذن الله تعالى – محقق للمراد من غير الوقوع في مخالفات شرعية، بعكس الطريق الآخر فإنه لا يوصل إلى المقصود مع طوله وبعده ومشقته ومخالفته للشريعة.
وأما ما يخص تولي الوزارة في ظل أنظمة لا تحكم بشريعة الله، فقد تبين من الأدلة أن الوزير المسلم إذا كان مفوضاً من قبل الحكومة التي تحكم بغير الشريعة بحيث أنه يملك العمل فيما فوض فيه بما يوافق دينه ولا يعارضه، وكان يرجو من وراء ذلك تحقيق نفع عام أو مصلحة عامة فإنه يجوز له ذلك إذا كان ما يرجوه من النفع والمصلحة مما يمكن وقوعه وتحققه، أما إن كان لا يملك أمره بحيث يكون بمثابة الترس الذي يدور مع العجلة لا يملك الفكاك منها، أو كانت حركته مقيدة بحيث لا يتخلص كاملاً من قيد النظام فلا يكون تفويضه كاملاً مما يوقعه في مخالفات شرعية، أو كانت المصلحة المتحققة من وراء توليته مصلحة جزئية ليس فيها نفع عام للمسلمين، بل النفع الحادث منها تعارضه مفاسد أشد، أو تقوم الدلائل والشواهد على عدم إمكانية تحقق تلك المصلحة، فإن توليه للوزارة في هذه الحالة يكون مفسدة يجب تجنب الوقوع فيها، وكل ما تقدم من الأدلة والمناقشات في هذا البحث تؤدي إلى ذلك، وقد تبين من خلال عرض الأدلة ومناقشتها وإيراد أقوال العلماء والمفسرين أن ما استدل به المجيزون – من تولي يوسف عليه السلام لخزائن مصر في ظل حكومة لا تحكم بما أنزل الله تعالى، أو كون النجاشي رحمه الله ملكاً للحبشة التي يدين شعبها بالنصرانية؛ على صواب قولهم – لا يستقيم، وأن هاتين الحالتين لا تعارضان الأدلة المتقدمة الواردة في المنع.
نسأل الله من فضله التوفيق والإعانة على ما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.