للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهي تصور كذلك أبا الوليد الباجي عالماً من علماء الإسلام الأفذاذ الذين خاضوا غمار الحياة السياسية والاجتماعية المتردّية بشجاعة فلم يَسْتَكِنْ لليأس أمام قتامة أفق المستقبل لمسلمي الأندلس، فقد شَقَّ طريقَهُ وَسَطَ أدْغَالٍ من الفتن والانقسام والتدلّي، واستطاع أن يَحْتَلَّ مكانة سامية عند مُعاصريه لعلمه وفضله، وهو ولئن أخفق في رَدّءِ الصُّدُوع والشروخ في البناء السياسي للأندلس المُخَضَّدة بانحذال قادتها ملوك الطوائف من المغامرين المتهافتين على السلطة وبتآمرهم وتعاونهم مع أعدائهم اللَّدودين من نصارى الشمال الذين استشرى شرُّهُم واستعر شَرَهُهُم فراحوا يَتَنَقَّصُونَ البلادَ الإسلامية من أطرافها كَتَوْطِئَةٍ لابتلاعها وَإِسْدَالِ ستار النصرانية عيها نهائياً، فإنَّهُ نجح في مهامّ القضاء ونشر العلم والمنافحة عن العقيدة ضدّ المتطاولين عليها من أساطين الكنيسة بالأندلس وفرنسا، بالعلم القاهر والبيان الغلاّب والحُجَّة المفحمة الآسرة.

كما تُوقفنا هذه الدراسة على بعض ملامح عصر الطوائف الذي كان صوتُ المجون واقتراف الذنوب ومُوالاة الكافرين وانتهاك شريعة الإسلام فيه عالياً، غلب على صوت الحكمة مُمَثَّلاً في دعوة صالحي علماء الإسلام إلى لزوم الشرع ونبذ الخلافات وتوحيد الصف لِرَدِّ العدوان، وكان انهزامُ صوت الشرع انهزاماً للأمّة وقضاء على عِزَّتَها ووجودها، وهي أحداث تجعلنا نوقن بحقيقة أن كل تَقَدُّمٍ علميّ وازدهار ثقافي يصبح غير ذي موضوع مَا لم يدعمه التزامٌ بالإسلام، وإنّ عِزَّة المسلمين في التزام شريعتهم، وكُلّما ابتعدوا عنها شِبْراً جانبهم التوفيقً ذِرَاعاً.

وثَمَّتَ ملاحظة جديرة بالتذكير بها وهي أنّ عدد الرواة المذكورين في كتاب الباجي لا يمثّل العدد الحقيقي للرواة الذين روى لهم البخاريّ في صلب الجامع الصحيح، حيث تكرر ذكر بعضهم كما أنه رحمه الله ذكر أقواماً لم يَرْوِ عنهم البخاري وإنَّما ذكرهم تبعاً لذكر بعض كبار النُّقَّاد لهم فضلاً عن كون الباجي قد ترجم لبعض الرُّواة الذين روى لهم البخاري متابعة أو استشهاداً، وأغفل الترجمة لبعضهم الآخر.

والباجي رحمه الله ولئن كان مُحِقًّا في عدم ترجمته للأعلام غير الرُّواة الواردة أسماؤهم في مُتُون الجامع الصحيح للبخاري، وفي تراجم أبوابه، فإن العناية بالتعريف بهم، وبترتيبهم حسب منهج مُعَيَّن، حتّى تسهُلَ الاستفادة منهم، يَبْقَى أمراً حَرِيًّا بالعناية، سيما وشيخُ الإسلام ابن حجر العسقلاني قد قطع شوطاً هامًّا في هذا المضمار، في موسوعته الخالدة فتح الباري.

وأخيراً لعلَّ هذا العمل ـ مع أمثاله من الأعمال العلمية المتعلقة بالرواة يكون لَبِنَةً في بناء موسوعة جامعة للرجال الثقات، بعد أن تُسْتَوْفى دِرَاسَتُهُم من جميع الجوانب الضرورية في التعريف بهم وبعلمهم وعدالتهم وذكر تلاميذهم وشيوخهم، وتواريخ وِلاَدَتِهم ووفياتهم ولا شكّ فإنّ الاستفادة من هذه الموسوعة تكون أكبر لويتم ترتيب رواتها على الحروف الهجائية وعلى تواريخ الوفيات معاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>