وإذا كانت المصلحة المرسلة فرداً من أفرادها، فالتخصيص ليس بها، وإنما بما استندت إليه من أصل كلي وما تفرع عنه من قواعد كلية.
٦ - التخصيص بالمصلحة المرسلة، هو تعطيل مؤقت لفرد من أفراد العموم للحاجة والمصلحة، فإذا زالت الحاجة رجع ذلك الفرد المستثنى إلى حكمه الأصلي، وفي هذا خير دليل على أن التشريع الإسلامي لا يعرف العجز والجمود عند نزول النوازل، وتغير الظروف والأحوال.
٧ - بوسع المصالح المرسلة أن تعالج كثيراً من القضايا التي تجدُّ في حياة المسلمين، سياسية كانت أم اقتصادية، أم ثقافية، أم اجتماعية، ذلك أن مجالها النوازل التي لم يرد فيها نص خاص بالاعتبار أو الإلغاء؛ فإن لاءمت مقصود الشارع وقواعده الكلية اعتبرتها ودعت إليها؛ وإن خالفت ألغتها وحذرت من شرها ومفاسدها. ومن هنا كانت تسعة أعشار العلم.
وما بقى من نوازل بدون علاج، وسعته المصادر التبعية الأخرى، كالاستحسان، والاستصحاب، وأصل اعتبار المآل الذي يتفرع عنه: قاعدة سد الذرائع، والحيل، ومراعاة الخلاف، والاستثناء.
وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي للمسلمين أن يكونوا في غنى عن التفكير في تجديد وتوسيع علم أصول الفقه، بحجة أن قواعده ومصادره صارت ضيقة ولا تفي بمتطلبات العصر.
بل عليهم أن يجددوه بإحياء ما اندرس من العمل به، وتبسيط مسائله، وتخليصه مما ليس منه من الأمور التي اقتضاها ظرف من الظروف، وتوسيع بعض مباحثه، كالاجتهاد الجماعي الذي أصبح من حاجيات العصر إن لم نقل من ضرورياته.
فما أحوج الأمة الإسلامية إلى أن ترى علماءها ومفكريها، على اختلاف تخصصاتهم وانتماءاتهم، جالسين على طاولة واحدة، يسودهم الحب في الله، والتعاون على نصرة شريعة الله، والنصح لعباد الله، يتدارسون مشاكل المسلمين، وما جد في حياتهم، وفق منهج علمي بعيد عن العواطف والعصبية، كي ينهضوا بهذه الأمة التي تترقب فجر يوم جديد، يوشك أن تشع شمسه، ليعم نورها مشارق الأرض ومغاربها، {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: ٤ - ٦].
فإذا استجابوا لنداء الأمة، سار الكل وراءهم، والتأم الشمل، وقويت الشوكة، وتحقق في الجميع قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: ١١٠].
وفي هذا القدر كفاية، وأحمد الله ربي حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، على أن وفقني، وأعانني على هذا العمل.
فما كان فيه من صواب فبتوفيقه تعالى، وما كان فيه من خطأ ونقص فبتقصيري، ومن نفسي ومن الشيطان، ولا يسعني إلا فضله تعالى وعفوه، فاللهم فاعف عني.
وقبل أن أضع القلم من كتابي هذا أذكر القارئين وأهل العلم بما قاله العماد الأصفهاني رحمه الله تعالى: (إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يوم، إلا قال في غده أو بعد غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر).