والذي أود إبرازه هنا هو الناحية النقدية التي تشكل أهم جوانب علوم الحديث، والسبيل الوحيد للتعرف عليها هو دراسة صحيح الإمام البخاري، وصحيح الإمام مسلم دراسة تحليلية معمقة، باعتبار أن كليهما ميدان تطبيقي لذلك، وفضلاً عن دراسة الصحيحين يجدر بالباحث المدقق أن يقارن "بالتاريخ الكبير" للإمام البخاري، و "كتاب العلل الكبير" للإمام الترمذي الذي جمع فيه نصوص شيخه البخاري، وكتاب "التمييز" للإمام مسلم، وسائر كتب العلل التي تحتوي على القدر الأكبر من الروايات المعلولة، والتي تعتبر من بقية المرويات التي اصطفى منها الإمامان تلك الأحاديث الصحيحة على أسس علمية متينة، بحيث تبرز الدراسة ما أودع كل منهما في تضاعيف الصحيحين من الفوائد الإسنادية، والنقدية، وتبلور المنهج العلمي المتبع لديهما في معرفة الصحيح والسقيم، وكشف أوهام الرواة، وحتى أغلاط الأئمة الأجلاء، وافتراءات المغرضين وحيلهم وانتحالاتهم.
بعد دراسة تحليلية في كتب العلل، وكتب الضعفاء، والصحاح، والسنن وغيرها من المصادر الحديثية التي وضعت في ضوء قواعد التصحيح والتعليل، أو الجرح والتعديل، في المرحلة الأولى، وبعد التتبع العلمي لها عن كثب، استطعنا ـ بفضل الله تعالىـ أن نستخلص طبيعة مسلكهم في نقد الأحاديث كما يلي:
يصحح الإمام البخاري وغيره من النقدة أصناف الأحاديث متى تأكدوا، وتحققوا من صدق كل راو من رواتها في سلسلة الإسناد، وإصابته في عزوها لمن فوقه كما سمعها منه، سواء رواها الثقات أو الضعفاء غير المتهمين، كما يردونها عند شعورهم القوي بخطأ أحدهم ووهمه، سواء كان ثقة أم ضعيفاً، أو قد كذب وافترى. وهناك أمور كثيرة تعتبر أساساً في تحري صدق الراوي فيما حدث به، وإتقانه له، أو خطئه ووهمه فيه، أو كذبه ووضعه له.
وأما بخصوص تحري الصدق والإتقان فكأن يروي الراوي حديثاً يوافق المعروف عن شيخه، أو عمن فوقه، أو عن الصحابي، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يوافق ما كان عليه عمل الصحابة، فإن موافقته للواقع دليل على صدقه وحفظه وضبطه، وحين تصبح الموافقة سمة بارزة له فإن نقاد الحديث يصفونه بما يدل عليها بدقة، ويصنفونه في زمرة الثقات.
فمعرفة حال الراوي ومستوى ضبطه وإتقانه متوقفة إذن على تقييم أحاديثه ورواياته، والأول تابع للثاني، وبالتالي لا يمكن أن تصبح صفته وحاله منطلقاً رئيسياً للحكم على حديثه في منهج المتقدمين، ومن هنا نلفيهم يصححون الأحاديث من مرويات الضعفاء متى أصابوا فيها ويحتجون بها، وصحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم يؤيدان ذلك، وقد جمع الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري أسماء الضعفاء والمتكلم فيهم الذين أخرج لهم الإمام البخاري ما صح من أحاديثهم.
فهذه الحقيقة العلمية الملموسة في نقدهم تفند ما راج بين الكثيرين من أن المحدثين صححوا الأحاديث بالنظر في سلسلة الإسناد دون المتن، حيث إن علم الرجال ثمرة لجهود المتقدمين في نقد المرويات.
أما معرفة خطئه ووهمه، أو كذبه وافترائه، فكأن يروي حديثاً يخالف الثابت عن شيخه، أو عمن فوقه، أو عن الصحابي، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يخالف الواقع المعمول به لدى الصحابة، أو أن ينفرد في حديثه بشيء ليس له أصل عند شيخه، أو عند من فوقه، أو عند الصحابي، أو عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤيده عمل الصحابة والتابعين.
فإن هذا النوع من المخالفة والتفرد دليل قاطع على خطأ الراوي ووهمه أو كذبه ووضعه، لأنه من كذب وافترى فمصيره أن يخالف الواقع، أو أن ينفرد بما لا أصل له، وكذا الأمر إذا أخطأ ووهم، وبقدر وقوع المخالفة والتفرد، ونوعية كل منهما يقع تصنيف الرواة، إما في الضعفاء أو المتروكين، أو الكذابين.