للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن في طريقة القرآن هذه لسمواً لا يفهمه إلا الذين لهم أذواق سليمة وثقافة عالية. فالقرآن دائما يخاطب أصحاب العقول النيرة والأبصار النافذة والأذواق الرفيعة. لكونه جاء من عند من أحاط علمه بكل شيء ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. تعالى الله علوا كبيرا، فالقرآن أمره عجيب!.

ومما يدل على شمول القرآن رده في سورة الرعد على الطبائعيين أو أصحاب نظرية داروين وغيرهم ممن ينكرون أن يكون للعالم فاعل مختار، والله جل وعلا في هذه السورة يقطع عليهم جميع الطرق والأدلة التي يحتجون بها حتى يتركهم في موضع المعاند.

اعلموا أن البستان الواحد الذي حفرت فيه بئر واحدة وسقيت أشجار تلك البستان من ماء البئر المحفورة فيه تكون ثماره مختلفة في الطعم واللون فبعضها حلو لذيذ الطعم وبعضها مر خبيث الطعم لا يذاق وبعضها ثمره أحمر وبعضها ثمره أصفر.

وخوفا من أن يقول أولئك النافون: إن تلك الأرض بعضها غني بالمواد العضوية وبعضها فقير منها أو يقولوا: إن في بعض التربة ملوحة وفي بعضها الآخر عدم ملوحة، بين أن الأرض مع اختلاف الثمار واحدة.

وكذلك بين أن الماء المسقي هذا البستان به ماء واحد حتى لا يقال: إن العلة في جودة بعض الثمار عن بعض عائدة إلى اختلاف ماء السقي.

قال تعالى مبينا ذلك ومعلمنا أن ذلك دلالة واضحة للعقلاء خاصة.

{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. لاحظ أنه قال: متجاورات خوفا من التفريق في التربة وقال: يسقى بماء واحد خوفا أيضا من التفريق في الماء. فبين أن ذلك من قدرة الخالق وحده لا شريك له وأنه دلالة على قدرة الله لقوم يعقلون الأدلة، وأن هذا العالم لم يخلق صدفة وإنما له خالق مختار هو الذي سير أمره.

وكذلك إخباره جل وعلا في أول سورة الروم، بعد ذكر الروم وفارس أن بعض الناس سيصلون إلى علم بظواهر الحياة الدنيا، ومن الغريب في ذلك أن الزمخشري في كتابه الكشاف أعرب هذا العلم بدلا من منفي فقال: لكونه علم تعلقه بظواهر الحياة الدنيا فهو كالعلم.

ولو نظرنا في الاكتشافات الحديثة كلها لوجدناها تتبعا لظواهر الحياة الدنيا، ولا تعدو ذلك. أما ما وراء ظواهر الحياة الدنيا فلا علم لهم به ولذلك كان علمهم بدلا من منفي قال تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} فيعلمون الأخيرة بدل من لا يعلمون.

وهذا الإعراب في غاية الجودة والدقة عندي لما فيه من البلاغة.

وأكتفي بهذا القدر وأنتقل إلى توصيات عامة.

" التوصيات التي لاحت لي أثناء بحثي كثيرة جدا "

" وأقتصر من تلك التوصيات على ثلاث "

<<  <  ج: ص:  >  >>