وليس من سبيل للوقاية من هذا الخلط في البحث وتركيب المقدمات سوى أن يكون الباحث على بينة من الخصائص الجوهرية للمصلحة التي اعتبرها الشارع الحكيم لعباده، مع ملاحظته في الوقت نفسه أهم ما يمتاز به ما يسمى بالمصالح عند مفكري الغرب أو الشرق؛ ثم أن يعرض ما قد يراه مصلحة على الضوابط التي ذكرناها، فإن رآها منضبطة بها مندرجة تحتها، فتلك مصلحة حقيقية تجدر مراعاتها، وإن رآها خارجة عليها متجاوزة لحدودها فتلك مفسدة ولا ريب، وإن توهمها مصلحة.
هذه الأمور الثلاثة هي أبرز ما حاولت التركيز عليه فيما مضى من أبحاث هذا الكتاب. وهي أهم ما أحب أن ألفت إليه أنظار الذين يطرقون باب الاجتهاد والرأي في أحكام الشريعة.
فأنا لا أريد أن أصد أهل العلم عن الاجتهاد فيما جد من أمور الحياة ووقائعها، ولكني أريد أن أقول: إنه لابد للمجتهد - بعد تمكنه من علوم الشريعة على اختلافها - من التنبّه إلى ضوابط المصلحة الشرعية وما يجب أن تتقيد به، والتنبه إلى أن كثيرا من أوباء الانحطاط المادي من حولنا يفد إلينا باسم القيم والمصالح ويحاول التسلل إلى مبادئنا وشرعتنا متقنعا بهذا الوصف.
فإذا روعيت هذه الأمور مع توفر العلم والتقوى، فإن الاجتهاد لن يكون إلا بابا للخير إن شاء الله.
وإن أهملت، وكان اسم المصلحة وحده هو المنار والدليل في طريق البحث فلعمري ان مثل هذا الاجتهاد لن يكون إلا أوسع باب شر مستطير يحيق بالمسلمين وحسبك من شر يخرج أحكام الشريعة من حصن النصوص وحرزها إلى ساحة الأهواء ومتاهة الآراء التي تضل وراء اسم المصلحة والمنفعة.
ولو كان اجتهاد المسلمين من قبل قائما على هذا الأساس، لضاعت الشريعة في غمار الآراء المختلفة المتطورة، ولماعت حتى لا يعلم منها إلا اسمها.
ولكن الله حافظ لدينه، حام لشريعتة {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، ولا تزال خيرة من عباده يدعون إلى الحق ويهدون به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأختم كلامي كما بدأته بحمد الله تعالى، وأسأله أن يهديني إلى الحق ويوفقني للتمسك به، وأضرع إليه أن يختم حياتي بصالح الأعمال إنه نعم المولى ونعم النصير.