للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن من أوجب حقوق الله على عباده بعد توحيده وعدم الإشراك به رد الطاعنين على الإسلام ومقارعتهم بالحجة والبيان. قال العلامة ابن القيم رحمه الله مبينا بعض حقوق الله على عباده: "ومن بعض حقوق الله على عبده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان والسيف والسنان والقلب والجنان وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان" [هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ص:١٠] وهذا المراد بالنصيحة لله وكتابه ورسوله. هناك أمور لا يجوز السكوت عنها، بل يجب الرد عليها في الحال على من كان أهلا لذلك، وهناك مسائل يجوز أن يغض الطرف عنها، وهناك أشياء يحرم التحدث عنها علنا. فالمسائل التي يجب الرد عليها على الكافية الطعن في أصول الدين. والتشكيك في الثوابت، والإتيان بالأقوال الشاذة التي تخرق الإجماع القولي والعملي، ومثال ذلك مسألة بحثنا هذا وما شاكلها خصوصا لو صدرت ممن له أتباع وشيع يقلدونه فيما يقول، فالسكوت مع هذه الحال لا تغتفر والخطيئة التي يجب أن يشهر ويعلن إنكارها مهما كانت الظروف والملابسات. أما المسائل التي يمكن أن يغض الطرف عنها فهي الخلافات الفقهية والأمور الاجتهادية التي تتسع لذلك. أما المسائل التي يحرم التحدث عنها علنا فهي المسائل الشخصية والسلوكية فلا بد لنا إذاً من التفريق والتمييز بين هذا فإن لكل مقام مقالا وصدق من قال: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى، فالأقوال الشاذة والبدع المنكرة والطعن في أصول الدين والتلاعب بما أجمع عليه المسلمون أمور يتعين على بعض طلاب العلم الرد عليها في الحال، لكي لا ينخدع بها الجهال، ثم يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا. وهذا ليس من باب الغيبة, ولا من باب الطعن والتشكيك في الدعاة، ولا هو سبب للتفريق والتشتيت الذي نهانا عنه الشرع، بل هو نصيحة يجب إسداؤها، وإذا سكت عنها وسكت أنت وسكت هذا ولم يتكلم ذاك فمن لها. رحم الله إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل وقدس الله روحه، حيث قيل له بسبب جرح وتعديل الرواة: لا تغتب العلماء فقال: ويحك هذه نصيحة، ليس هذا غيبة. وقال كذلك رادا على من تحرج من عملية الجرح وقال: (إنه يثقل عليّ أن أقول فلان كذا وفلان كذا قال: (إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟) [تدريب الراوي للسيوطي ٢/ ٣٦٩] فالنصيحة دين وحق يجب أن يؤدى مهما كان الشخص قريبا أم بعيدا عنك عالما كان أم غير عالم صالحا كان أم طالحا. ورحم الله علماء السلف من هذه الأمة فقد كان الحق أحب إليهم من كل شيء وها هو علي بن المديني من أئمة الجرح والتعديل يسأل عن أبيه هل يؤخذ بروايته أم لا؟ فيقول لمن سألوه: سلوا عنه غيري فأعادوا المسألة فأطرق ثم رفع رأسه وقال: هو الدين، إنه ضعيف. حقا إنه الدين الذي يجعل الولاء أولا وأخيرا لله وحده لا لولد ولا لوالد، ولا لإمام مذهب، ولا لقائد جماعة، ولا لشيخ طريقة، وما فعله الإمام علي فعله أبو داود الإمام صاحب السنن، إذ قال عن ابنه" ابني عبدالله كذاب" ونحو من ذلك قول الذهبي في ولده أبي هريرة: إنه حفظ القرآن ثم تشاغل عنه حتى نسيه. ومن قبل أمير المؤمنين علي محذرا من تزويج ابنه الحسن رضي الله عنه، الحسن مزواج مطلاق لا تزوجوه. ومن قبل سيد الخلق، عندما استشارته فاطمة بنت قيس في الزواج من معاوية أو أبي الجهم قال لها: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه، ولكن انكحي أسامة بن زيد. ورحم الله مالكا الإمام حيث قال: لقد أدركت في هذا المسجد سبعين شيخا لو استسقى بهم الناس لسقوا ما أخذت منهم حديثا واحدا لأنهم ليسوا من أهل هذا الشأن. وقال يحيى بن معين رحمه الله: إنا لنطعن في أقوام لعلهم حطوا رواحلهم في الجنة أكثر من مائتي سنة. هذا بالنسبة لمن يطعن في الدين أو يشكك في أصوله، أو يخشى من الانخداع به، أما بالنسبة لما يصدر عن بعض العلماء الأثبات من هفوات وسقطات في مسائل الفروع وفي الأمور الاجتهادية خاصة لمن تجاوز القنطرة منهم (وثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه وندر جارحوه) فلا يلتفت إلى جرحه لأن المناقص خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث. ورحم الله الخطيب البغدادي حيث قال: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل - يعني من غير الأنبياء عليهم السلام - إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه فمتى كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله. أما إذا كان الماء قليلا جدا لا يسد الرمق ولا يزيل الغصة وحلت به النجاسة فإنه ليعرفوا على حقيقتهم، والاشتغال بالرد على هذا الصنف عبادة وقربى إلى الله. ورحم الله أحمد الإمام قيل له: الرجل ليصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين وهذا أفضل. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>