وثانيا: لأن طبيعة الاتصال بين الناس وطبيعة اللغة يقتضيان وجود قواعد ومعايير يحتكم إليها في فهم وسائل الخطاب، وما دامت النصوص الشرعية قد جاءت باللغة العربية فلا طريق إلى فهمها فهما سليما إلا بالخضوع لقواعد تلك اللغة وأساليبها كما عرفها أهلها الأصلاء.
ثم بعد النصوص يأتي الاستقراء، ومع أن الاستقراء نفسه يعتمد على النصوص بمنطوقها ومفهومها ومعقولها، فإن فائدته أنه يوفر لنا النظرة الكلية المتكاملة لمقاصد الشارع، فهو الذي يكشف لنا عن الناظم الذي ينظم الجزئيات المتناثرة، فيكشف عن الكليات الشرعية والمقاصد العامة، فتستخلص الكليات من خلال تتبع الجزئيات، وتفهم الجزئيات بعد ذلك في ضوء تلك الكليات، فيعلم ما ينضوي منها تحت تلك الكليات، وما هو مستثنى منها استثناء يعتد به، وما هو معارض لها يلغى في مقابلتها طبقا لقواعد التعارض والترجيح.
لقد أحدث الاطلاع على الدراسات اللغوية والألسنية عند الغربيين في القرن الأخير انبهارا لدى بعض الباحثين من أبناء المسلمين الذين غلبت عليهم الثقافة الغربية، فظنوا ذلك اكتشافا غير مسبوق، وراحوا يدعون إلى إعادة قراءة النصوص الشرعية بناء عليها، وصارت نظرية السياق – عندهم – كشفا جديدا حرمت منه الدراسات الشرعية، وغاب عنهم أن ما يتحدثون عنه هو جزء مما بنيت عليه النظريات الأصولية التي تمثل المنهج الإسلامي في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها واستنباط الأحكام منها. وبغض النظر عما قدمه علماء اللغة – كالجرجاني – في ذلك فإن الإشارة هنا مقصورة على علم أصول الفقه لكونه يمثل منهج تفسير النصوص الشرعية، ولبيان أن مراعاة السياق بأطره المختلفة لم يكن أمرا غائبا عن الأصوليين في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها، وأن تلك النصوص قد قرئت وفق منهج دقيق لم يكن ينقصه ما ظنه هؤلاء كشفا جديدا في عالم الدراسات اللغوية والألسنية.
لقد قسم الأصوليون طرق دلالة اللفظ على المعنى إلى ثلاثة أقسام: النظم، والمفهوم، والمعقول، فاللفظ إما أن يدل على معناه بصيغته ومنظومه، أو بفحواه ومفهومه، أو بمعناه ومعقوله. وبنوا مباحث دلالات الألفاظ – وهي صلب علم أصول الفقه – على نظرية السياق والقرائن. فمباحث التخصيص، والتقييد، والحقيقة والمجاز، والتأويل، وتقسيم دلالة اللفظ إلى منطوق ومفهوم عند الجمهور، وتقسيم الحنفية لطريق دلالة اللفظ على المعنى إلى: عبارة النص، وإشارة النص، ودلالة النص، واقتضاء النص، كلها مباحث قائمة على السياق والقرائن.
وهذا موضوع يحتاج إلى بحث مستفيض تبرز فيه معالم نظرية السياق في علم أصول الفقه وامتداداتها في مباحثه المختلفة.
ومن الموضوعات التي تحتاج إلى مزيد من البحث موضوع أسباب ورود الحديث، فإنه – على عكس ما هو واقع في أسباب النزول التي لقيت حظها من البحث – لم يجد العناية الكافية على أهميته في فهم نصوص السنة النبوية وتوجيه المشكل منها.