استهل القرن الثالث عشر "وسمعة أعلام الأزهريين قد ضربت ما بين المشرق والمغرب بكتبهم التي شاعت في عصرهم، وعم الإقبال عليها". ونالت كتب العدوي، والدردير، والأمير، والدسوقي اعتماد علماء المالكية بعامة، والمصريين بخاصة، وصارت كتبهم مدار اعتماد الدارسين والمفتين. وقابل ظهور هؤلاء الأعلام المصريين ظهور أعلام من العلماء المغاربة، اشتهرت مؤلفاتهم في المغرب بخاصة وأقطار الشمال الإفريقي بعامة.
وظهر تأثر مؤلفات العلماء المصريين بترجيحات وآراء علماء المغرب واضحاً في كتاب الشرح الكبير للدسوقي، حيث اعتمد فيه على آراء العلماء المصريين وتحريراتهم، كالعدوي، والأمير، جنباً إلى جنب مع آراء وتحريرات الشيخ البناني على حاشية الزرقاني، مازجاً بذلك بين المنهجين: المصري، والمغربي اللذين سلكهما علماء المالكية في تحريرهم لكتب الأجاهرة، وسار على منهجه الصاوي في كتابه: بلغة السالك.
في حين ظهر تأثر علماء المغرب بالاتجاهات المصرية الترجيحية باعتماد كتب الدردير، والدسوقي.
يقول الشيخ ابن عاشور: "وعم الإقبال عليها [مؤلفات علماء المالكية المصريين] مثل الشيخ محمد الدسوقي، الذي عظمت شهرة دروسه، وأسانيده، وكتبه، واعتمدت حواشيه، ولا سيما حاشيته على شرح الدردير على المختصر الخليلي التي اعتمدها فقهاء الزيتونة في الدروس، والفتاوى، والأحكام، وعلقوا عليها، وجاذبوا مؤلفها بحوثه، ونقوله، وتحقيقاته".
في عرض شامل لأهم الكتب المعتمدة والمتداولة عند علماء المغرب في هذا العصر، يقول الشيخ الثعالبي (ت ١٣٧٦هـ): "إن غالب الفتوى من الكتب المتداولة ... ، وقد اشترط العلماء اشتهار الكتاب الذي يفتى منه على القول بجواز ذلك دون رواية، كمختصر خليل، على أن هذا حصّل درجة التواتر، لكثرة من يحفظه في زماننا ... ، ومن جملة شروحه المتداولة: حطاب، والمواق، وهما كتابان معتمدان إلا قليلاً، وشرح الدردير، ثم الرسالة وشروحها لابن ناجي، وزروق، وأبي الحسن، وجسوس وغيرهم.
ومن الكتب المعتمدة: الموطأ لمالك، وشرحها للباجي، وشرح محمد الزرقاني، وهي أم المذهب، وكذا المدونة ...
ومن كتب الفتوى: التحفة لابن عاصم الغرناطي، وشروحها لسيدي عمر الفاسي، والتاودي بن سودة، والدسولي [التسولي]، وميارة، وحاشية أبي علي بن رحال عليه، وشروح لامية الزقاق، والعمل الفاسي، وشروحه، والعمل المطلق، والمرشد المعين، وشرحاه لميارة، وتبصرة ابن فرحون".
زبدة الكلام: أن "غاية ما يشترط الآن فيمن ينتصب للفتوى أو للقضاء في إحدى العواصم الكبار أن يكون ... بحيث يعرف أن يطالع الكتب، ولا سيما مختصر خليل بشرحيه: الخرشي، والزرقاني وحواشيه".
توَّج هذا الرأي فضيلة الشيخ العلامة محمد الطاهري ـ رئيس مجلس الإفتاء في المجلس العلمي الإقليمي بفاس ـ حيث أفاد بما نصه: "علماؤنا ومشايخنا ومشايخهم، كانوا يفيدون بالاعتماد على الزرقاني على خليل بشرط استشارة من خدموه، ونعني به: حاشية التاودي، وحاشية البناني، وقد جاء الرهوني فحرر الزرقاني، وأصبح هو المعتمد، وزاد في تحريره الشيخ كنون وإن لم يجد عليه إلا القليل".
إن اعتماد الحواشي ـ التي أشاد بها فضيلة الشيخ العلامة محمد الطاهري ـ في تحرير آراء الزرقاني على كتاب مواهب الجليل لمحمد بن محمد بن عبدالرحمن الحطاب المكي، كما نبه عليه فضيلة الشيخ الثعالبي بقوله: "وعليه [حطاب] اعتمد البناني وابن سودة، والرهوني في كثير من تعقيباتهم على الزرقاني"، هذا الاعتماد يشير بوضوح إلى حقيقة علمية تاريخية هي: أن المذهب المالكي بدأ حجازياً مدنياً وانتهى حجازياً مكياً.
وفي الختام:
يأبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابة، والعصمة إلا لرسوله ونبيه محمد ?، وهذا أخي القارئ جهد المقل، وهو ما توصل إليه الباحث عن تطور اصطلاح المذهب المالكي عند المالكية، وكتبه المعتمدة عبر القرون، منذ أن وضع البذرة المباركة إمام دار الهجرة، مالك بن أنس رضي الله عنه في مدينة طيبة الطيبة على ساكنها أفضل الصلاة، وأتم التسليم، فنمت، وترعرعت، وأصبحت شجرة باسقة، وارفة الظلال، شأن كل عمل مخلص، أريد به وجه الله ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ? [إبراهيم: ٢٤]، وصدق الله ـ العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا، ومولانا، وشفيعنا سيد الأولين والآخرين، النبي الأمي الأمين، ورضي الله عن أصحابه أئمة الهدى أجمعين، والتابعين وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.