للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن الملاحظ أن أهم ما استندت إليه هذه الآراء، هو كون هذه القواعد أغلبية، وأن المستثنيات فيها كثيرة، وأنه من المحتمل أن يكون الفرع المراد إلحاقه بها، مما يشمله الاستثناء. وهذا الاحتمال صحيح، وهو متحقق في كل القواعد الاستقرائية، لكنه لا يبطل الاستدلال بها، لاسيما في الأحكام الفرعية الفقهية.

والظاهر من أقوال من نفوا ذلك مطلقا أنهم لم يفرقوا بين القواعد، ونظروا إليها جميعا بمنظار واحد، وأدخلوا ضمن فهمهم لها الضوابط الفقهية المحدودة النطاق أيضا، الأمر الذي كان له أثر واضح في حكمهم الرافض للاحتجاج بالقواعد، وجعلها قاعدة استنباط.

ومن الغريب أن بعضهم، كابن دقيق العيد (ت ٧٠٢هـ)، بالغ في ذلك، وادعى عدم جواز استنباط أحكام الفروع حتى من قواعد أصول الفقه.

على أنه مهما يكن من أمر، فإن لقاعدة (اليقين لا يزول بالشك) مزية خاصة تقتضي أن يكون لها حكم تتميز به عن كثير من القواعد. والذي يترجح لدينا أنها صالحة لتكون من قواعد الاستنباط، عند عدم وجود نص يتناول المسألة المجهول حكمها، كما أنها صالحة لتعليل كثير من الأحكام التي تدخل في نطاقها، ولترجيح بعض الأحكام على بعض. والذي دعانا إلى ذلك عدد من الأمور، منها:

١ – أن هذه القاعدة قد استندت، كما ذكرنا في الاستدلال لها، إلى طائفة من الأدلة الشرعية، كالكتاب، والسنة، والإجماع، وأدلة العقل. وعلى هذا فهي تكتسب قوتها من الأدلة المذكورة. والثابت بها ثابت بهذه الأدلة بطريق غير مباشر. وأكثر من منعوا جعل القواعد الفقهية أدلة، استثنوا ما هو من طراز هذه القاعدة المستندة إلى الأدلة الشرعية.

ومن الملاحظ، أيضا، أن الأدلة لم تقم على عنوان القاعدة وحده، بل إن كثيرا من الأصول، المتفرعة عنها، مما قامت على صحته، وبناء الأحكام عليه الأدلة الشرعية.

٢ – إن ما يثار من موضوع المستثنيات، بينا أنه لا يقدح في كلية القاعدة، من وجوه عدة. ومن أهم هذه الوجوه أن العلماء – رحمهم الله – حينما تكلموا عن هذه القواعد لم يتطرقوا إلى أركانها وشروطها – عدا ما أوردوه بشأن العرف والعادة – ليعلم ما إذا كان ما يذكرونه من المستثنيات، هو مما فقد بعض تلك الشروط، أو أنه من مستثنيات القاعدة بالفعل. ثم إن ما ذكر من مستثنيات بشأن القاعدة موضوع البحث، يعد قليلا، إذا قيس بالكم الهائل من الفروع التي تدخل في نطاقها.

٣ – إنّ هذه القاعدة دخل في إطارها عدد كبير من القواعد والأدلة الأصولية، كالأصل في المنافع الحل، وفي المضار التحريم، وكالاستصحاب، ودلالات الألفاظ وما هو المتيقن فيها. وقد نبه الزركشي (ت ٧٩٤هـ) إلى ذلك، فذكر أن هذه القاعدة لا تختص بالفقه (بل تجري في أصوله، ويمكن رجوع غالب مسائل الفقه إلى هذه القاعدة إما بنفسها أو بدليلها؛ ولأجل هذه القاعدة كان الاستصحاب حجة، ولم يكن على المانع في المناظرة دليل .. ). وكرر هذا المعنى شارح الكوكب المنير، أيضا.

وعلى هذا فإن منع بناء الأحكام عليها، ورفض جعلها من مصادر الاستنباط مخالف لما تقتضيه قواعد أصول الفقه، وموقفهم منها.

٤ – إنّ واقع ما هو موجود في كتب الفقه يعزز دليلية القاعدة، فقد استدل بها العلماء في أكثر أبواب الفقه، ورجحوا بها الأحكام، والأصول المتعارضة التي تتنازع طائفة من الجزئيات.

٥ – ونجد أن عددا من شراح مجلة الأحكام العدلية، ذكروا أن منع اتخاذ القواعد مدارا للحكم والفتوى إنما هو للمقلد. قال الأتاسي (ت ١٣٢٦هـ) في شرحه للمجلة، بشأن الاستئناس بالقواعد، (أي يتنور بها المقلد، ولا يتخذها مدارا للفتوى والحكم، فلعل بعضا من حوادث الفتوى خرجت عن اطرادها بقيد زائد، أو لأحد الأسباب المتقدم ذكرها. وهذا يحتاج إلى نظر دقيق، وتبحر عميق يجري تلك القواعد في مشتملاتها الحقيقية، ويستثنى منها ما خرج عنها بقيد أو سبب من الأسباب المارة).

ولهذا فإن مثل هذا الحكم لا ينطبق على المجتهدين القادرين على استنباط الأحكام، أو تخريجها على أصولها. ومن الملاحظ أن شارح الكوكب المنير الذي نقلنا نصه النافي لدليلية القواعد الكبرى، فيما سبق، يذكر أن هذه القواعد يقضي بها في جزئياتها، كأنها دليل على ذلك الجزئي. ولا ندري كيف لا تكون دليلا، إذا كان يقضى بها في جزئياتها؟ نعم ربما أراد أنها ليست بدليل مباشر، ولكنا دليل بالواسطة، فإن كان أراد ذلك لم تنتف عنها الدليلية أيضا. ولعل تعليل البناني (ت ١١٩٨هـ) لذكر القواعد الكبرى في خاتمة الأدلة في جمع الجوامع بقوله: (إنها تشبه الأدلة، فناسب كونها خاتمة لبحث الأدلة) يجري في هذا المجال.

والذي يظهر – والله أعلم – أن ذكر ابن السبكي (ت ٧٧١هـ) لها في خاتمة الأدلة، إيماء منه بصلاحيتها للدليلية والترجيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>