٢ - تحذر الآيات من محاولات التلبيس، التي يقوم بها أصحاب الخصومة المزيفة، وتحث من أراد أن يخاصم عن آخر أن يمحص الحق، ويعرف واقع الخصومة التي يدافع فيها، لتتحقق بذلك العدالة المطلوبة من الله بين الناس، {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}.
٣ - تلفت الآيات الأنظار إلى أن التساهل في تمحيص الأدلة والاندفاع مع تيار الخصوم الخائنين، والجدال عنهم وهم يخاصمون بالباطل، وينسجون التمويه على الحق، كل ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا، ولا ينجيهم في الآخرة من العذاب الأليم، {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}. ٤ - وتصرح الآيات بأن عاقبة الذنوب وآثارها السيئة إنما تنزل وتحيق بمن اكتسبها وباشرها دون من ألصقت به وحكم بها عليه ظلماً وزوراً. وإن إثمها ليتضاعف على صاحبها إذا رمى بها بريئاً، وانتحل في خصومته الأكاذيب والتزوير حتى ضلل بها الحاكم وأوقعه في الخطأ، وهو يريد الصواب، وفي الباطل وهو يريد الحق {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.
وأخيراً: لعل آذان الذين يتخذون أساليب الحيل والخداع من المحامين، طريقاً لصرف القضاة عن جهة الحق وموطن العدل، لعل آذانهم تصغي إلى هذه التحذيرات الشديدة، التي تضعهم في صفوف الخائنين الآثمين {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا}{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}. وإلا يفعلوا فهم من الذين بين النبي صلى الله عليه وسلم حالهم في قوله:(سيكون قوم يأكلون بألسنتهم. كما تأكل البقرة من الأرض) وإن سبب إيراد الحديث يوضح معناه: كان لعمر بن سعد إلى أبيه حاجة، فقدم بين يدي حاجته كلاماً مما يحدث الناس به حتى يوصلون (إلى مآربهم) لم يكن يسمعه، فلما فرغ قال: يا بني قد فرغت من كلامك؟ قال: نعم. قال: ما كنت من حاجتك أبعد، ولا كنت فيك أزهد مني منذ سمعت كلامك هذا. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر الحديث. ففي هذا الحديث تحذير شديد من التفاصح، وتشقيق الكلام، والتشدق في الألفاظ والتحذلق والتفيهق واستعمال البيان بالباطل لكسب المال. وإن هذا الحديث يبين حال أناس منهم: المتشدقون في الإذاعات، والخطباء للمال والمظهر والسمعة، وكتاب الصحف فيما لا فائدة له والمراؤون للحكام والظلام.
وقد ورد بهذا المعنى عدد من الأحاديث. منها قوله صلى الله عليه وسلم (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان). رواه أحمد عن عمر مرفوعاً، والطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في شعب الإيمان عن عمران بن حصين.