٦ـ هذا التوجه هو مقتضى ما وصى به الأئمة أتباعهم وتلاميذهم فكلهم طالب أتباعه الحق وإن خالف قوله ولو قام الأئمة من قبورهم ورأوا ما عليه أتباعهم اليوم من مخالفتهم لما أمروا به لتبرؤوا من ذلك ونهوا عنه.
٧ـ هذا التوجه هو منهج العلماء الأعلام من أصحاب المذاهب الذين عرضوا أقوال علماء المذهب وأقوال فقهاء الأمصار جنبا إلى جنب مع ذكر أدلة كل قول وذكر الراجح ومن خير من سار هذا المسار ابن قدامة في كتابه المغني والنووي في المجموع وابن عبد البر في الاستذكار وهو منهج الفقهاء الأعلام من أهل الحديث أمثال ابن حجر في كتابه القيم فتح الباري.
رأينا كثيرا من الأعلام في كل مذهب من يترك مذهب إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره إذا تبين له رجحان دليله وضعف دليل إمامه.
ثمار هذا التوجه:
وهذا التوجه في عد المذاهب الفقهية مذهبا واحدا أو كالمذهب الواحد له فوائده وثماره الخيرة ومن هذه الفوائد والثمار:
١ـ تحقيق الوحدة بين المسلمين فالمسلمون كما قرر كتابهم ودعا إليه رسولهم أخوة فيما بينهم والأئمة كما مر معنا كانوا أخوة يدعو بعضهم لبعض ويحب بعضهم بعضا وينصح بعضهم لبعض.
٢ـ وهو ينزع فتيل العصبية المذهبية القائمة على تعظيم بعض أهل العلم والغض من شأن الآخرين وموالاة إمام والبحث عن عيوب الآخرين والتعصب لأقوال وفتاوى واجتهادات واحد من الأئمة ورمي أقوال غيره من الأئمة.
وقد أدى كل هذا إلى البغضاء والاقتتال والخصام بين أبناء الدين الواحد والملة الواحدة من أهل السنة والجماعة.
٣ـ هذا النهج يقلل الخلاف ولا يزيده ففي كل مذهب من الاختلاف بين أصحاب المذهب الواحد شيء كثير وفي كل مذهب من الأقوال الشاذة والوجوه والاختيارات الضعيفة ما جعل المحققين في كل مذهب يضجون بالشكوى وينادون بتصحيح المسار وتقويم الأخطاء.
٤ـ هذا النهج يعيد للفقه اتساعه وشموله فقد رأينا كيف ضاق الحال بأتباع كل مذهب في بعض المسائل مما جعلهم يترخصون باتباع مذهب آخر لما يرونه من حرج في أتباعه مذهبهم.
ليس هناك عالم واحد أحاط بالسنة كلها وبالدين كله ومع أن كل مذهب فيه خير كثير إلا أن أتباعه قد يجانبهم الصواب في بعض المسائل فجعل فقه الأئمة فقها للكتاب والسنة يوسع الدائرة ويجعل أنظار المجتهدين والعلماء تجول في تلك الدائرة الكبيرة والواسعة وبذلك يرتفع كثير من الحرج والمعاناة التي قد يجدها بعض أصحاب كل مذهب في بعض الأحيان.
وهذا النهج يجعلنا أكثر قدرة على مواجهة المستجدات والمعضلات في أمر هذه الحياة التي أصبح التغير والتلون فيها هائلا سريعا في هذا العصر.
كما أن متابعة هذا النهج يلقم حجرا أولئك الذين يزعمون أن الشريعة الإسلامية لا تسع الحياة ولذلك اتجهوا إلى الأخذ من القوانين الغربية إن الضيق الذي وجدوه في بعض الأحيان سببه الاقتصار على مذهب دون غيره ولو جعل فقه الأئمة مجالا للأخذ والنظر لما وجد هذا الإشكال.
٥ـ ومن ثمار هذا المنهج الذي يقوم على إطلاق العقول من عقالها تربية الملكة الفقهية التي تتمرس بأقوال أهل العلم من مختلف المذاهب وتتعرف إلى استخلاص الاجتهاد وكيف استدل العلماء بالنصوص على الأحكام وكيف استخلص العلماء الأحكام من الأدلة وهذا هو النهد الذي تربى الأئمة عليه فتفتحت عقولهم ونمت مداركهم وتعمقت لديهم الملكة العلمية التي تفقه وتستوعب وتحلل المسائل وتحكم في ضوء النصوص.
٦ـ وأخيرا فإن هذا النهج يحيي دراسة النصوص من الكتاب والسنة والعمل بها من غير إهدار لجهود الأئمة بل يجعل فقه الأئمة جهودا لفقه النصوص لا نصوصا تزاحم النصوص.
وفي ختام هذه الخاتمة أود التنبيه إلى أنني لا أقصد بما أدعو إليه في هذه الخاتمة إلى جعل كل الآراء الفقهية في مختلف المذاهب على حد سواء فالاختيار من الأقوال والمذاهب محكوم بالدليل فالقول الأقوى والأصح ما قوي دليله أما التخير من الأصول بمجرد الترجيح الشخصي فإنه مرفوض وقد تحدثنا عن هذا فيما مضى من بحثنا هذا والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين.